ملخص
فالأحكام الفقهية مستنبطة من أدلتها الشرعية، وهذا متفق عليه عند عامة فقهاء المذاهب، فضلاً عن فقهاء المذهب المالكي. ولكن وللأسف مر على المذهب المالكي زمن تبدلت فيه موازينه وانقلبت معاييره، وتصدر للفتوى فيه رجالات اعتمدوا على ما اشتهر على ألسنة فقهائهم، وجعلوا شهرة القول دليلاً على صحته وقدموه على ما ترجح دليله؛ لشهرته. وفي المقابل نهض بالأخير (الراجح) رجال انتصروا فيه للدليل الشرعي، وجعلوه القائد في تقديم الراجح على مقابله مما اشتهر حكمه واعتمد في المذهب فقهه؛ لكنهم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود. وسرعان ما أُضرِمت نارُ الحرب عليهم، ووجهت سهام التهمة إليهم ؛ لقلة الناصر والمعين. وأضحى لأصحاب القول المشهور صولة وجولة، استطاعوا أن يحملوا العامة عليه، ويشهروه في أغلب بلاد المغرب ومصر والعراق. وأصبحت كتب المذهب المالكي غارقة في بحر المشهور. ولم يزل العلماء المحققون المتحررون من ربقة التقليد مثل ابن عبد البر وابن العربي ينتصرون للدليل حتى نصرهم الله، فظهرت كتبهم وانتشر في أرجاء المعمورة فقههم. لكن مع ذلك لا تزال نعرة التقليد مؤثرة، وكتب المقلدة منتشرة، جعلت من المشهور ديناً، ومن الكثرة دليلاً، إلى زماننا هذا. فهذه الكتب في حاجة ملحة إلى جهد كبير من المهتمين بالفقه المالكي؛ لتخليصها من شوائب المشهور، والرجوع بها إلى ما رجحه الدليل الصحيح، الداعي إلى الحكم الصحيح. وهذا ضرب من الجهاد بالكلمة والبنان يسدي إلى المذهب محاسن شرعية جمة؛ لتعليق مسائله بالأدلة، وتقديم القول للدلالة عليه من الكتاب والسنة، لا لكثرة رجاله، فالرجال يستدل لهم لا يستدل بهم.