ملخص
بعد هذه الرحلة العلمية الشاقة في دروب أصول الفقه وأفانينه الزاكية، وبين رياض المتقدمين العظماء من أئمة الفقه وأصوله الذين تركوا لنا مصنفات يضيق علينا أن نصنف لها شبيهاً في الدقة وسعة الأفق، فضلاً عن دراستها وفهمها، أعرض هنا موجزاً لأهم ما توصلت إليه من نتائج على النحو التالي: أولاً: الاستحسان دليل مهم وواسع من أدلة الأحكام الشرعية يأتي دوره في الأهمية بعد الأدلة المتفق عليها عند جمهور العلماء. ثانياً: تبين من هذه الدراسة أن أكثر العلماء تطبيقاً له ولقرون عديدة هم علماء الحنفية خلال حكم الدولة الإسلامية العباسية والعثمانية. وهم الذين دافعوا عنه وأوضحوا حدوده وتعريفاته. ويرجح القول بأن الأخذ بالاستحسان دليلاً شرعياً للأحكام، كان من أسباب انتشار الفقه الحنفي خلال قرون عديدة من الحكم الإسلامي، ذلك لأن الاستحسان يمثل جانباً مهماً من جوانب المرونة والسعة في الشريعة الإسلامية، وبخاصة الاستحسان المبني على الضرورة والعرف ـ فإن أعراف الناس تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن آخر ـ وفي مسايرة الشريعة لأعراف الناس التي لا تخالف أصلاً من أصول التشريع، ولا تجلب مفسدة، مما يجعل هذه الشريعة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. ثالثاً: أن تطبيق الاستحسان عملياً في الأحكام الشرعية يعود إلى عصر الصحابة، تبين أن أكابر الصحابة استنبطوا بعض الأحكام الشرعية استحساناً، وبعد إقرارها من بقية فقهاء الصحابة، صارت إجماعاً، ومنها جمع القرآن الكريم، وعدم توزيع أرض السواد على المقاتلين. رابعاً: بعد عهد التابعين الذين أخذوا بالاستحسان، ونظراً لإكثار بعض فقهاء المذاهب ـ خصوصاً الحنفية ـ من تطبيقات الاستحسان دليلاً لإيجاد الحلول للمسائل الفقهية، جهر معارضو الاستحسان الذين ظنوه قولاً بالهوى والتشهي بدون دليل، وعلى رأس هؤلاء الإمام الجليل الشافعي ـ رحمه الله تعالى، الذي عارض الاستحسان بشدة في كتابيه الرسالة والأم، وروي عنه أنه قال: "من استحسن فقد شرع". خامساً: إن هجوم علماء الشافعية ومن معهم على الاستحسان كان هجوماً على أمر مجهول قبل أن يوضح علماء الحنفية الذين جاءوا بعد عهد الإمام الشافعي، حقيقة الاستحسان، وبأنه ليس قولاً بالهوى والتشهي، لكن ترجيح حكم على آخر بقوة دليله، ولهذا نجد معظم المعارضين للاستحسان عدلوا عن هجومهم، وقالوا إن الاستحسان بالصورة المذكورة عند الأئمة المتقدمين من الحنفية والمالكية والحنابلة ليس محل خلاف. فالإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ شدد النكير على الاستحسان، وكان ذلك من باب الورع عن الفتوى بالتلذذ والتشهي واتباع الهوى من غير نص أو دليل، فهو لم يعب على أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ استحسانه المستند إلى الأدلة التي سبق ذكرها من نص أو إجماع أو قياس وباقي الأدلة. سادساً: تم بحث العديد من المسائل الفقهية التي وضع الأصوليون المتقدمون الحلول الشرعية لها عن طريق الاستحسان، ويتضمن مسائل في جميع أبواب الفقه من عبادات ومعاملات وفرائض وحدود. تم في هذه المسائل ذكر وجه الاستحسان وترجيح نوع الاستحسان من أنواعه التي سبق بحثها في هذه الرسالة، وهي استحسان النص، واستحسان القياس الخفي، واستحسان الإجماع، واستحسان العرف، واستحسان الضرورة، واستحسان المصلحة، واستحسان بمراعاة الخلاف، واستحسان بترك اليسير لتفاهته. ومن خلال المسائل الفقهية التي تم بحثها تبين أن الأئمة الأربعة المجتهدين كلهم أخذوا بالاستحسان، حتى أن الإمام مالك ـ رحمه الله تعالي ـ روي عنه أنه قال: "الاستحسان تسعة أعشار العلم". كذلك وردت استحسانات للإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى. سابعاً: تم بحث العديد من القضايا المعاصرة التي تهم المسلمين في حياتهم، ووضع الحلول الشرعية لها عن طريق الاستحسان؛ ومن ثم دراسة فتاوى علماء المجامع الفقهية لهذه المسائل، والتي لم يذكر فيها الأدلة الشرعية التي تم بها التوصل إلى الفتاوى، فتبين أنها عموماً موافقة للأحكام التي تم التوصل إليها عن طريق الاستحسان، ومن هذه القضايا المعاصرة: صرف الزكاة لطباعة الكتب والأشرطة الإسلامية ولصالح المواقع الإسلامية على شبكة المعلومات. نقل الأعضاء الآدمية وزرعها. -بيع السلم في التطبيقات الفقهية المعاصرة. -أداء الدين وتغير العملة. -بدل الخلو (السرقفلية) في البحث الفقهي المعاصر. -تنفيذ العقود في الظروف الطارئة. -التأمين التجاري وصور منه مرجعها الاستحسان. وفي الحالات التي ظهر فيها خلاف بين فتوى علماء المجامع الفقهية والحكم عن طريق الاستحسان، تبين أن الأخذ بالاستحسان يؤدي إلى التيسير ورفع الحرج وتحقيق العدالة، فكان هو المرجح. ثامناً: تمت دراسة العديد من المسائل الفقهية المعاصرة التي تهم أمر المسلمين، والتي يمكن وضع الحلول الشرعية لها عن طريق الاستحسان، فتبين أن الأخذ بالاستحسان يؤدي إلى التيسير ورفع الحرج وتحقيق العدالة، ومن هذه المسائل: -تطهير الملابس بالسوائل الكيماوية. قصر الصلاة في السفر. -إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم. -تفجير الإنسان نفسه. -التصاوير والتماثيل. -الوصية الواجبة. -الجراحات التجميلية. وغيرها. تاسعاً: يتبين من استقراء الأمثلة المذكورة في جميع أنواع الاستحسان أنها تعتمد في حكمهما ـ عموماً ـ على مراعاة الضرورة أو الحاجة التي تندفع بها المشقة والحرج عن الناس، وتتحقق العدالة التي هي أساس الشريعة الإسلامية، قال تعالى: }يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ{الآية. وقال تعالى: }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ{الآية. وقال تعالى: }إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ{الآية. وقال النبيe: [أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة]. عاشراً: من دراسة أبواب وفصول هذه الرسالة، خصوصاً التطبيقات على الاستحسان في استنباط الأحكام الشرعية لكل المسائل الفقهية في الماضي والحاضر، يتضح المجال الواسع للاستحسان في التعرف على الأحكام الشرعية، كما يتبين بأن الاستحسان أوسع مجالاً للتعرف على الأحكام من القياس؛ ذلك لأن القياس يكون فقط عندما يكون في مسألة حكم سابق مستنبط من الكتاب أو السنة أو إجماع علماء الأمة، فيقاس على ذلك الحكم عند اتحاد العلة بين الحكم المعروف والحكم المجهول لمعرفة حكم الأخير. فإذا وردت مسألة فقهية فيها قياسان، تحتاج إلى معرفة الحكم الشرعي لها، ولم يتبين ذلك الحكم من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس لعدم وجود علة مشتركة، فهنا يأتي دور الاستحسان بأنواعه التي سبق التفصيل فيها لمعرفة الحكم الشرعي لها، ومهما كان نوع المسألة؛ لأن أنواع الاستحسان تتضمن مقاصد الشريعة الربانية. حادي عشر: من خلال دراسة الاستحسان في القضايا الفقهية المعاصرة التي بحثت في هذه الرسالة، يتبين أن الاستحسان يعد طريقاً ممهداً لتحصيل أحكام الكثير من الوقائع والنوازل المعاصرة، سواء كان بتطبيقه منهجاً للحصول على الأحكام أو بتوسيع ما استحسن عن الأئمة المتقدمين وتطبيقه ليشمل قضايا معاصرة، وكما ورد في الرسالة عند البحث عن السلم والاستصناع. كما يمكن القياس على استحسانات الإجماع والعرف التي قال بها الفقهاء المتقدمون للتعرف على أحكام العديد من المسائل المعاصرة، وكما سبق بيانه في المبحث الرابع من هذا الفصل من الرسالة. لذا فالاستحسان آلة للمجتهد يستعين بها للتوصل إلى الأحكام الشرعية للقضايا المعاصرة. ثاني عشر: في عصرنا الحالي، عصر التقدم الهائل في الحاسب الآلي وإمكانية اطلاع المجتهد على تفاسير القرآن الكريم للأئمة المتقدمين، وكذلك الاطلاع على معظم الأحاديث النبوية وتخاريجها، إضافة إلى الأحكام الفقهية والفتاوى لأئمة الفقه المتقدمين بسهولة ويسر وبدون الحاجة للحفظ، فإن الطريق أصبح ممهداً للباحث المؤهل أن يبت في شرعية مسائل عن طريق الاستحسان بصورة أسهل كثيراً مما كان في العصر قبل عصر الحاسب، وأن يتعرف على المسائل التي يمكن معرفة أحكامها عن طريق الاستحسان. ثالث عشر: من خلال هذه الرسالة، فقد ثبت أن علماء أصول الفقه في عصرنا الحاضر أجمعوا على الأخذ بالاستحسان مصدراً غير مختلف فيه من مصادر الأحكام الشرعية؛ لذا فاستناداً للرأي الراجح من إمكان حصول إجماع العلماء بعد عهد الصحابة، فإن إجماعاً فعلياً قد حصل بين عموم علماء المسلمين على الأخذ بالاستحسان المعرف في هذه الرسالة دليلاً مهماً وواسعاً لاستنباط الأحكام الشرعية. رابع عشر: إن القول بعدم حجية الاستحسان يعني في الواقع سد باب الاجتهاد الواسع، خصوصاً في عصرنا الحالي؛ لأن الحوادث متجددة وغير محددة وسريعة فلا يمكن معرفة الحكم الشرعي لها من أحكام محدودة، فالمحدد لا يفي بالمتجدد بديهة، كما أن سد باب الاجتهاد يعني جمود الشريعة، ومحال أن تكون شريعة الله تعالى التي شرعت من قبل الله الواسع الحكيم لكل زمان ومكان جامدة. خامس عشر: أخيراً، وفي معرض التوصية للباحثين من الفقهاء، نذكر بالآتي: صح عن رسول الله e أنه قال: [خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم]، "والصحيح أن قرنه e الصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم"(. ومن المعلوم أن أئمة الفقه من الذين أخذوا بالاستحسان وطبقوه في حل المسائل الفقهية هما الإمامان أبو حنيفة النعمان، ومالك بن أنس، هما من التابعين وتابعيهم، يليهم الإمام أحمد بن حنبل، وكان تلميذاً للإمام الشافعي ـ رحمهم الله تعالى جميعاً. فحري بمن يريد الهداية والفتح في التعرف على الأحكام الشرعية أن يقتدي بهؤلاء أئمة الفقه المتقدمين، ويطبق الاستحسان في التعرف على حكم المسائل المعاصرة على كثرتها وسرعتها وتعقيدها.