ملخص
مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين حدثت مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليـمية ألقت بظلالها على جميع أوجه الحياة، وساهمت تلك المتغيرات في مجملها في ظهور نظام عالمي تحتل فيه مجموعة قليلة من الدول مقعد القيادة، وتمارس مختلف أشكال السيطرة والهيمنة والوصاية على العالم فى ظل ما اصطلح على تسميته بالعولمة، فقد ألقت العولمة بتداعياتها على جميع أوجه الحياة، وبدأت آثارها تظهر فى مختلف بلدان العالم والبلدان العربية بوجه خاص، بعد أن دخلت كثير من الدول دائرة الغرب واهتماماته بشكل واضح، وفتحت آفاقاً للترابط مع النظام الجديد، على نحو يصعب الفكاك منه واختلفت الآراء حول العولمة فهناك من يرى ضرورة سرعة الاندماج وخاصة الدول النامية في النظام العالمي الجديد، حتى يتسنى لهذه الدول الاستفادة من التطورات التكنولوجية و زيادة حجم التجارة والاستثمار الدوليين، وذهب فريق آخر إلى أنه من الخطر على الدول الأقل نمواً الاندماج في النظام الجديد . وأياً كانت الآراء فإن العولمة طرحت العديد من التساؤلات حول من المستفيد من النظام العالمي الجديد ؟ وهل هناك خيارأمام الدول العربية خاصة باعتبارها من الدول الأقل نمواً في الاندماج في هذا النظام ؟ فهناك مجموعة من المتغيرات المصاحبة للعولمة ، التي أخذت تشكل تحديات تفرض نفسها على الساحة العربية، وتستلزم ضرورة العمل على تعظيم الإيجابيات على قدر الإمكان وتقليل السلبيات التي يمكن أن تلقي بظلالها على واقع السياسة والثقافة العربية، فهذه الدراسة تناقش آثار العولمة وتحدياتها على مستقبل الأمة العربية، وكيفية مواجهتها في مختلف المجالات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، وهي تحديات متداخلة يصعب فهمها بشكل منفصل. إن العولمة المعاصرة تعني الخضوع لمجموعة من القواعد والمعايير الدولية التي تنظم مجالات كانت تدخل في صميم سيادة كل دولة: من حقوق الإنسان في المجال الـسيـاسـي، إلـى اقـتصـاد الـسـوق بـمـا يتـضمنـه من إزالة القيود على انتقال رأس المال ، والسلع، والخدمات ، والعمالة، وحقـوق الـملكية الفكرية في المجال الاقتصادي، وانتقال الأفكار والمعلومات في المجال الثقافي، حيث تهدف عولمة الثقافة إلى صهر الثقافات المحلية في بوتقة واحدة، قد تضيع معها الخصوصيات الثقافية، ومن ثم فإن عولمة الثقافة تشكل خطراً كبيراً على الثقافات المحلية، حيث تصبح تلك الثقافات أكثر عرضة للغزو الثقافي في ظل التطور غير المتكافئ الذى طرأ على وسائل الإعلام مما يؤدي إلى زيادة المستهلكين لمنتجات الثقافة الغربية، ففـي ظل العولمة بدأت تظهر مخاطر الاختراق الثقافي، وتهـديـد الخصوصية والتبعية الثقافية للدول الأقل نمواً حيث تتجلى تداعيات العولمة الثقافية في التوجه لصياغة ثقافة عالمية من خلال تعميم النمودج الغربي الأمريكي، وبذلك يصبح الحفاظ على الهوية الثقافية والخصوصية الحضارية أحد التحديات التي تواجه الأمة العربية. ومما لاشك فيه أن الثورة المعلوماتية تركت بصماتها على دور الدولة الـذي بدأ يضعف فـي مجتمع عصر التدفق الحر للمعلومات عبر تقنيـات الاتصال الحديثة ولم يعد بالإمكان التحدث اليوم عن السيادة الإعلامية ضمن الحدود السياسية للدولة، وعن التحكم بعملية تدفق المعلومات داخل تلك الحدود، وبالتالي الانفراد بتشكيل عقول مواطني الدول بما يضمن الولاء التام للدولة، خاصة وإن تأثير ثورة المعلومات قد شمل سلباً الدولة بكل مكوناتها من حدود سياسية معترف بها، وشعب وحكومة، وأصبحت السيطرة على عملية تدفق المعلومات شبه مستحيلة بعد أن تحولت المعلومـات إلـى عناصر ملموسة، وغير مرئية، يسهل تنقلها واختراقها لأية حدود جغرافية، فقد تقلص البعد الجغرافي، وزال الفاصل الزمني، وأصبحت تقنيات الاتصال الحديثة تقفز من فوق الحواجز وتخرقها. وتكمن اشكالية هذه الدراسة في أن هناك انبهاراً بحضارة الغرب والرغبة في التشبه بها دون اقتراح آليات ومشاريع علمية و عقلية لتحقيق ذلك ، فالحاجة ماسة اليوم إلى ممارسة النقد الحر، والسعي إلى بناء كل ما هو مثمر وجديد. إن هذا العصر هو الذي يحدد ما تكون عليه أمة من الأمم من ناحية القوة والضعف ومدى تجاوبها السلبي أو الإيجابي مع معطيات العصر وتقلباته، وعلى مدى جدية الموقف العربي في التفاعل مع العولمة لأخذ مكانة متقدمة بين الأمم، بحيث نسهم في بلورة رأي بشأن الظروف الموضوعية للنشاط الفكري الثقافي المعاصر لنرى مدى اقترابه أو ابتعاده عن الطموح في التقدم العربي. مما تقدم فإن العولمة، تشير إلى متغيرات حقيقية ذات أهمية أساسية، ولهذه المتغيرات آثار عميـقة فـي السياسة كما في الاقتصاد والثقافة والنشاطات الأخرى، فالعولمة فيها من الفرص بقدر ما فيها من المخاطر، والقدرة على اغتنام الفرص وتجنب المخاطر تعتمد إلى حد كبير على القدرة على التعامل مع الظواهر الجديدة القادمة مع العولمة، فيجب التحرك بسرعة المتغيرات نفسهـا، ليـكـون لـنـا رأي ودور فـي هذه المتغيرات. ونـظـراً لأهـميـة الـمـوضـوع وخـطـورتـه عـلـى الـوطـن الـعـربـي، وفـي ضـوء الـتـحديـات والـمستجـدات الـتي يـشهـدهـا الـعـالـم، وانـقسـام رؤى الـمـفـكـرين والـمثـقفـين حـولـهـا، جـاءت هـذه الـدراسـة مـحـاولـة لـتحليل بعض الآثار المترتبة على العولمة، من خلال آراء المفكرين والمثقفين، وذوي الاهتمام بهذا الموضوع ، وقد تناولت الباحثة التأثيرات المتعددة للعولمة، وكان التركيز على أربع محاور أساسية: المحور الأول: يدورحول العولمة من ناحية تحديد المفهوم والنشأة التاريخية، وأثر المتغيرات الدولية المعاصرة، لاستيضاح طبيعتها وتحديد موقعها، فمن الصعب الحديث عن العولمة بمعزل عن تطور الرأسمالية العالمية والمتغيرات الدولية المعاصرة في ظل ثورة المعلومات. المحور الثاني: يتعلق بالثقافة العربية والخصوصية والهوية، وما يحدث الآن من تشويه للثقافات على مستوى العالم، ولما للإعلام من دور في نشر وتسويق الثقافة الأمريكية والثقافة الغربية التي تتصادم مع المحلي القائم، فما يحدث الآن هو صراع بين الوافد والمحلي، مما يهدد بالاستبعاد والتشويه للثقافات المحلية الخاصة، فقد تم التركيز في هذا الجانب على أثر الثقافة الغربية على الثقافة العربية الإسلامية في ظل عصر المعلومات. المحور الثالث: يتعلق هذا المحور بالجوانب السياسية، حيث إن تطورات الأوضاع العالمية في العقد الأخير من القرن العشرين قد كرست مفهوم الأحادية القطبية، وتشكيل النظام الواحد المهيمن، مما يدعونا إلى التساؤل عن وضع الدولة وموقعها في هذا النظام الأحادي، فالدولة بدأت تنهار وتضعف أمام قوى الشركات العملاقة التي تسعى إلى إسقاط حق الدولة في التدخل بالشؤون الداخلية والخارجية، من خلال فتح الأسواق، وسيطرة المنظمات العالمية على أمور السياسة واستبعاد الدبلوماسية، فعصر العولمة هو عصر تسقط فيه الحدود وتفتح فيه الأسواق، وهو عصر الشعارات كحقوق الإنسان والديمقراطية التي تأتي جاهزة من الخارج، وتسيس بها الدول حسب مصالحها، بالإضافة إلى حق التدخل وحق تقرير المصير التي هي مجرد شعارات فارغة . المحور الرابع: يتعلق بالهيمنة الاقتصادية وتبعاتها السياسية والثقافية على الوطن العربي، وهوجانب أتعرض فيه لنقد ظاهرة العولمة، فالهدف اقتصادي وهو بالتالي يؤثر في السياسة والثقافة والتبعية للغرب المسيطر. وفي ظل ذلك وانطلاقاً من أن الأحداث الدولية التي يشهدها العالم اليوم، أصبحت تؤثر في الحياة العربية، فقد عرضت للتحديات التي تواجه الثقافة والسياسة العربية أمام التحول العميق الذي أحدثته ثورة الاتصالات، وذلك من خلال عرض وتحليل عدد من الدراسات والبحوث المهمة المتعلقة بالدراسة ومن أهم النتائج التي توصلت إليها الباحثة ما يلي: العولمة ظاهرة تستهدف تحطيم الحدود الجغرافية والجمركية وتسهيل نقل الرأسمالية عبر العالم كله كسوق عالمية، مما يعني انفتاح الحدود الاقتصادية والتشريعات التي تسمح للنشاطات الاقتصادية الرأسمالية بتوسيع حقل عملها ليشمل العالم كله، فالعولمة هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة الدول الصناعية الكبرى وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ، العولمة بذلك هي العملية التي عن طريقها تصبح الأسواق والإنتاج في الدول المختلفة معتمدة كل منهما على الأخرى بشكل متزايد بسبب ديناميات التجارة في السلع والخدمات وتدفق رأس المال والتكنولوجيا، وهي ليست ظاهرة جديدة، ولكنها استمرارية للتطورات التي تتابعت لفترة طويلة من الزمن. فقد مرت العولمة بعدة مراحل منذ بداية الكشوف الجغرافية، أهمها: مرحلة تطور الرأسمالية التجارية، ثم الرأسمالية الصناعية، وبعدها الرأسمالية المالية، تليها رأسمالية بعد الصناعة أو الثورة التكنولوجية، وهي التي بدأت تترسخ أكثر فأكثر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتميزت هذه المرحلة بتطور في مجال البحث العلمي التطبيقي في التنمية الاقتصادية، ففي هذه المرحلة المتقدمة من تطور الرأسمالية تندرج العولمة باعتبارها مظاهر اقتصادية اجتماعية وسياسية لإنجازات علمية وتكنولوجية مثلت ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال روحها وعمودها الفقري، ولا تمثل الموجة قفزة نوعية في تطور وسائل الإنتاج فقط بل أيضاً مرحلة جديدة في مراحل الرأسمالية. فهنـاك ربـط بين تطورالـعلم والـعولمة، ولكن التقدم العلمي وسيلة وليس سبب العولمة، فالربط بين التقدم العلمي والعولمة يستهدف تحرير العولمة على أنها نتاج التقدم العلمي مثل أي إنجاز آخر، ويتجاهل بأن التقدم الـعلـمـي يجري في خدمة الرأسمال، والتقدم العلمي إنجاز كل البشرية في تاريخها الطويل لسعادة الإنسان وليس لـخـدمـة الـرأسمـال. كانت الثقافة العربية في تاريخها الطويل ثقافة حوار وتعاون وكانت بحكم موقعها الجغرافي منطقة لقاء الثقافات وامتزاجها، وكانت بحكم طبيعة العرب المنفتحة أخذاً وعطاءً ثقافة تعاون وتفاهم بين الشعوب، ومع التطور الفائق السرعة الذي حققته التقنية في مجال الاتصال بين الأمم والشعوب أصبح الحوار والتعاون لزاماً، يضاف إلى ذلك أن الثقافة تنمو وتزدهر كقيمة في الحضارة الإنسانية بقدر تفاعلها مع الثقافات الأخرى، وبما تقدمه لتفاهم الشعوب وتعاونها من إسهام في إغناء الحضارة. فقد أصبح عبور المجتمعات المعاصرة إلى الحداثة العالمية ضرورة حتمية، لا فرق في ذلك بين مجتمعات متقدمة ومجتمعات نامية ، قد يبدو عبء العبور بكل تكاليفه الاقتصادية والثقافية أسهل بالنسبة للمجتمعات المتقدمة التي خاضت اختبارات الحداثة منذ قرون، إذا ما قورنت بالمجتمعات النامية، فمعركة المجتمعات النامية تتطلب السعي لمحاولة العبور إلى العالمية في عصر العولمة، بكل ما تفرضه من شروط سياسية وقيود اقتصادية، فالنقل عن الحداثة الغربية يفتح الطريق أمام التبعية الثقافية ويكرسها ، فالانبهار بالعقل الغربي ومنجازاته، واحتقار العقل العربي ومنجازاته تقع في قلب الشرخ الثقافي الذي يعيشه الإنسان العربي اليوم. إن مراكز المعلومات وتكنولوجيا الاتصال هي التي تمتلك اليوم مفاتيح الثقافة، ولذلك نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في نشر ثقافتها عبر القارات والترويج لأفكارها وقيمها الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، على حساب اكتساح الثقافات الوطنية واتباعها ضمن الحلقة الثقافية الأمريكية إن الحوار بين الثقافات لا يكون منتجاً إذا انغلقت الثقافات، فالبحث عن الهوية الثقافية لا يعني العزلة فكوننا جزءاً من هذا العالم الجديد وإدراكنا لحقيقة العولمة، تؤكد حاجتنا إلى تعزيز خصوصيتنا في مواجهة أخطار التبعية وإلغاء الهوية القومية، فلوسائل الاتصال الدور الأكبر في حماية الثقافة ونقلها وتغيرها أيضاً، كما أن للأفراد خصوصيتهم و كل شعب من شعوب العالم له ذاته القومية، ومن حق شعوب العالم أن يتم التعبير عنها وعن هويتها الثقافية ، حيث صارت وسائل الاتصال تهدد الهوية الثقافية في كثير من المجتمعات، فالدول الأكثر قدرة على امتلاك وسائل الاتصال، هي الدول الأكثر هيمنة ثقافية، وهي بالتالي تقوم بتصدير ثقافتها وتعمل على فرضها بطرق واضحة أو خفية، مما يدعو إلى نظام إعلامي جديد، والمقصود من هذا النظام الذي يدعو إليه الكثيرون مواجهة المواقف السلبية الناتجة عن أساليب الترويج والإعلانات التجارية، وتلافي العواقب الناتجة عن بعض الجوانب من هذا النوع من الإعلام، التي تنال القيم الثقافية والاخلاقية في مختلف المجتمعات. بدأت عملية احتكار المعلومات مع بداية الثورة الصناعية حيث كان الحرص على عدم انتقال التكنولوجيا من بلد لآخر، وفي وقتنا الحاضر أصبحت المعلومات عنصراً أساسياً لا غنى عنه في أي نشاط، فهي المادة الخام للبحوث العلمية، وهي الأساس والمحك الرئيس لاتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب، ومن يملك المعلومات الصحيحة في الوقت المناسب يكون قد ملك عناصر القوة والسيطرة، إن توافر المعلومات يساعد على نقل خبراته إلى الآخرين واستيفائها من الآخرين ليستعين بها على إدارة شؤونه وتطوير وسائل إنتاجه وتمكنه من القدرة على القيام بإنتاجية مبتكرة ومتجددة ، فالوضع السيئ لاقتصاديات معظم البلدان النامية وتخلفها في مجالات أخرى كثيرة نابع من تخلفها في مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، وإن التحفظ وسوء الإدارة يعود جزء كبير منه إلى افتقاد هذه البلدان إلى عنصر المعلومات. ويرجع تأخر الدول النامية ومنها الدول العربية إلى افتقارها للحصول على المعلومات التي أصبحت سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب الأمر الذي يتيح للشركات الكبرى التابعة للدول المتقدمة احتكارها وبالتالي تعمل على حجب المعلومات الهامة عن الدول النامية التي تحرص على بقائها مستوردة لمنتجاتها المصنعة والتي مصدرها الأساس هذه الدول النامية، إن لتكنولوجيا المعلومات عواقب سيئة ونتائج أخذت ملامحها تظهر وتزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، فالتدفق الحر للمعلومات الذي تدعمه القوة الاقتصادية قد أدى إلى موقف عالمي أصبح فيه الاستقلال الثقافي لكثير من الدول يخضع للإنتاج الإعلامي وللمفاهيم التي تبثها قلة من الدول الكبرى التي تتحكم في اقتصادها اعتبارات السوق، والاتهام القائم هو أن مضمون البرامج الإعلامية قد استخدمت أداة هامة لتحقيق الاستراتيجيات الثقافية للدول الرأسمالية، بهدف مد نفوذ أنظمتها. أصبحت شبكة الإنترنت بما توفره من ثروة في المعلومات منبراً للتفاعل بين المستفيدين، فإمكانية الاشتراك في شبكة الإنترنت أصبحت سهلة للغاية، فالإنترنت لها من الإيجابيات بقدر ما لها من السلبيات، ففي إطار ربط العالم عبر الإنترنت في عالم القرية العالمية الصغيرة فإن الفرص أمام النخب العالمية للاتصال والتفاعل الإنساني سوف تزداد، وبالنظر الشامل إلى التطورات الهائلة في مجال الاتصالات سيقوم عصر الوسائط المعلوماتية بتغيرات أساسية منها دخول الحواسيب البيوت في أشكال متنوعة، فقد أصبح المنزل بؤرة اهتمام الشركات المصنعة للحوسبة والاتصالات، وكل هذه الإنجازات والمخترعات المتجددة والمتغيرة بسرعة تؤكد أن ثورة الاتصالات هي روح عصر العولمة وعمودها الفقري، ولا يمكن إدراك أبعاد هذه الثورة إلا بإدراجها في إطار أشمل هو الثورة التكنولوجية والعلمية بشكل عام. تختلط الأمور السياسية بالأمور الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، وهي بالتالي تصب في الاتجاه نفسه ، فالعولمة السياسية هي انتهاء الحدود بين الدول بحيث تثأثر كل دولة بما يجري حولها من الدول، ولعل أهم سمة من السمات السياسية هو ترسيخ النظام العالمي الجديد، فالعولمة السياسية تعني نشر مفاهيم الديمقراطية الليبرالية وتعميمها وما يصاحب ذلك من رفض وإنهاء للشمولية في الحكم، وتبني التعددية السياسية والالتزام باحترام حقوق الإنسان، وكذلك استخدام الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان في العالم، والحماية الدولية للأقليات، والتدخل الدولي الإنساني، وغيرها من آليات النظام العالمي الجديد. فقد أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية إمبراطورية بلا حدود، وذلك لما تملكه من قوى عابرة للقارات، سواء من النواحي العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية يساعدها كل ذلك قدرة اتصالية فائقة، ففي ضوء المستجدات والمتغيرات الدولية العالمية وجدت الإمبريالية الاستغلالية الأمريكية فرصتها في التمدد والهيمنة على كثير من مناطق العالم عموماً وعلى منطقتنا العربية خصوصاً متذرعة بأحدث الذرائع الزائفة تحت عنوان مقاومة الإرهاب، وجوهره مقاومة كل إمكانية أو حركـة تستهدف استنهاض عوامل القوة والتحرر الديمقراطي القومي، بمثل ما تستهدف تكريس تبعية شعوب هذه الأمة وتخلفها من جهة، وإعادة هيكلتها وتكييفها بما يضمن إلحاقها بصورة شبة مطلقة لسياستها في المنطقة بما يتوافق مع مستجدات المصالح الأمريكية الراهنة إن الشعارات الليبرالية التي تتعلق بتقديس مبدأ حرية السوق، باعتباره الحل لكل مشكلات الإنسانية، تحتاج إلى وقفة نقدية، فلا يكفي رفع شعارات الحرية السياسية والقناعة بسياسة اجتماعية تقوم على التأمينات أو برامج الدعم للطبقات الفقيرة، ذلك أنه حين تزداد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وحين تستولي القلة على الجزء الأكبر من الدخل القومي، فإن المخاطر جسيمة على النظام السياسي ذاته، لأن الجماهير التي تتدهور أحوالها الاقتصادية لن تستكين إلى أوضاعها المتردية، ومن ثم فالاستقرار السياسي وهو ضرورة أساسية لأي نمو أو تنمية يمكن أن تقضي عليه تحركات الجماهير المحبطة. ففي المجال السياسي تتجسد نظرية حقوق الإنسان في شكل الديمقراطية التي يريد الغرب فرضها في كل مكان، ولا يوجد من ينازع في أن الديمقراطية شكل متطور من أشكال الحكم، إلا أن الديمقراطية كما نعرفها اليوم هي صناعة أمريكية، ولدت في مجتمع غربي نتيجة لتطورات طويلة في التاريخ الغربي، إن حقوق الإنسان والديمقراطية نظريات واعدة لا تخلو من مزايا، ولكنها تحتاج إلى عنصر أساسي وهو الاحترام المتبادل، فلكي تنجح العولمة لا بد أن تحترم الشعوب بعضها بعضاً وينتفي مطلب البقاء للأقوى. إن الـدولـة الـمعـاصرة غير قـادرة بمفـردهـا علـى السيطرة على بعض الظواهر مثل الشركات العالمية، والأقمار الاصطناعية والمشاكل العالمية، والأسواق المالية العالمية، حيث إن هذه الظواهر لا يمكن حصرها ضمن فضاء إقليمي يمكن أن تمارس الدولة عليه سلطة حصرية، كما أن التقدم المذهل في تقنيات الاتصالات أدى إلى تدفق الأفكار والمعلومات بين المجتمعات بعيداً عن سيطرة الدولة، مما قلل من سلطتها على اللغة والتعليم والثقافة، إن سلطة الدولة في الحفاظ على قيم المجتمع وتقاليده وأعرافه، والتعبير عنها على النحو الذي يؤكد وجود هوية حضارية متميزة تعمق انتماء المواطن لدولته في مواجهة الآخر، غير أن وظيفة الدولة الثقافية قد تآكلت بفعل تسارع آليات الاتصالات الدولية بفعل العولمة، وأصبح المواطن عرضة لأشكال متنوعة من قيم وتقاليد وأعراف أجنبية عنه. وكل هذا من شأنه تطويع الطابع القومي لشعوب العالم النامي لمقتضيات العولمة وللآليات التي تفرضها قوى السوق، بشكل يخلق نماذج استهلاكية مشوهه، ويفرز قيماً تتعارض مع ثقافة المجتمع، فالتحدي الرئيس أمام العرب اليوم هو كيفية تغير أو ما الذي ينبغي فعله حتى تغيرموقعها من العولمة، وبالتالي تغير دورها فيه من مجرد تابع إلى عنصر فعّال. إن المعركة الحقيقية لا تكمن في مواجهة العولمة كعملية تاريخية، وإنما ينبغي أن تكون ضد نسق القيم السائد الذي هو إعادة لنظام الهيمنة القديم، وهنا ينبغي تحديد طبيعة المعركة في النضال للقضاء على ازدواجية المعايير في تطبيق حقوق الإنسان، وعدم فرض نموذج النظرية الغربية كنموذج أوحد للديمقراطية، وإتاحة الفرصة للشعوب لكي تمارس حقها السياسي، فهناك ضرورة لتقنين حق التدخل، حتى لا يشهر كسلاح ضد الشعب العربي، كـمـا أن قـضية حل الصراعات بأسلوب سلمي، وتحقيق السلام العالمي، وإعادة النظر في مفهوم التنمية على المستوى العالمي، كل هذه الميادين تحتاج إلى نضالات متواصلة لضمان صياغة نسق قيمي عالمي يحترم حرية الشعوب، ويسهم في تقدمها في ظل حضارة إنسانية جديرة بالتحقق، إن الفجوة في المعرفة تتسع بيننا نحن العرب وبين الدول المتقدمة، فنحن ما زلنا في مجال استهلاك المعرفة ولم نعبر بعد إلى مجال المعرفة، ومن ثم لا بد من سياسات فعّالة لضمان الاستهلاك المنتج للمعلومات المتاحة، حتى يكون ذلك مجرد خطوة تجاه الإسهام في إنتاج المعرفة المعاصرة، إن صناعة المستقبل لا يمكن أن تكون حكراً على الدول المتقدمة، بل لا بد من أن نساهم في صنعها من خلال عملية نشيطة وفعّالة لحوار الحضارات نقدم فيها صورة إيجابية وخلاقة لحضارتنا . إن هيمنة العولمة على النظام الاقتصادي الدولي وقلق كثير من الدول النامية ومنها الدول العربية، من عدم تعبئة مجتمعاتها التعبئة الشاملة والحقيقية لمواجهة الاحتياجات المستقبلية ، يؤكد أن تطبيق مبادئ التنمية المستدامة هو الطريقة الصحيحة والأكثر فاعلية ؛ لأن الاهتمام برأس المال البشري وزيادة قدرته على التكيف مع التطورات التكنولوجية العملاقة من أهم عوامل الاستفادة من العولمة بدلاً من التخوف من سلبياتها، فليس هناك من بديل أمام الدول العربية في أن تكاملها في الاقتصاد العالمي في المدى الطويل، ونجاحها في تحقيق ذلك يتوقف على قاعدة من الموارد البشرية القادرة على التنافس، حيث تُعَدّ المعرفة عنصراً جوهرياً من عناصر الإنتاج ومحدداً أساسياً للإنتاجية، فقد أصبح تمايز الاقتصاديات يرتكز على مستوى التقدم العلمي والتكنولوجي، كذلك يجب الاهتمام بزيادة الإنفاق على البحث والتطوير العلمي، إذ لا سبيـل للأمة العربية في البقاء والحفاظ على قيمها وثراثها وهويتها العربية والإسلامية إلا بالعلم . إن الأمة العربية بكل أقطارها وتفرعاتها المصطنعة تشكل اتفاقاً خصائصياً من حيث القيم والتقاليد والتاريخ والدين واللغة، أي إنها تمثل نموذجاً فريداً يجعل من السهل عليها واليسير أن تقيم سياسة ثقافية إعلامية تقيم بعض الحواجز ضد الاختراقات الاستغلالية الغربية، التي تستهدف كيان الأمة وخصائصها القيمية والثقافية، ومحاولة طمس الهوية والذاكرة التاريخية للأمة العربية، وتحصنها ولو جزئياً من أنماط وسلـوكيات الحياة الغربية والأمريكية التي أصبحت جوهر العولمة ، إن العولمة الأمريكية تسعى جاهدة ودون أي تهاون إلى اختراق الأمة العربية مستخدمة كل الوسائل: إعلامية وثقافية وسياسية، وعلينا التسليم أن العولمة تؤدي إلى وجود رابحين كما تؤدي إلى وجود خاسرين، وغير مستفيدين منها، فلا بد من اتخاذ الإجراءات والاحتياطات التي تخفف من حدة اللامساواة الحاصلة من العولمة. إن حماية ثقافتنا رهينة بمدى رغبتنا نحن في العمل على انعاشها والاستفادة من معطيات العولمة والتفاعل معها أخذاً وعطاءً، لا رفضاً وسلباً، فالوصول إلى رسم سياسة عربية تربوية وثقافية موحدة في إطار رؤية عربية للتنمية الشاملة أصبح اليوم أمراًً حتمياً، سياسة تجمع بين القيم الأصيلة في حضارتنا العريقة والقيم الإنسانية الكبرى في الحضارة البشرية كالحرية والمساواة بين البشر وتوفير المناخات الملائمة للنهوض بالإنسان.