توظيف الشواهد البلاغية في كتاب دلائل الإعجاز للشيخ عبد القاهر الجرجاني

تاريخ النشر

2010

نوع المقالة

رسالة ماجستير

عنوان الرسالة

كلية الآداب - جامغة طرابلس

المؤلفـ(ون)

فوزية الطاهر الشين

ملخص

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأصلي وأسلم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد بلغ هذا العمل نهايته، ولكن تجدرالإشارة إلى أن بعض النتائج التي توصل إليها البحث لم يكن من المستطاع أن يتم تناولها في صلب الدراسة بسبب تركيزها على شواهد كتاب "دلائل الإعجاز" بصفة خاصة، وليست هي بالأمر الهين، وأن التطرق إلى تلك النتائج الهامة سيقلل من نسبة التركيز التي كان البحث في الشواهد يتطلبها، ولذلك لابد من التطرق لتلك النتائج في الخاتمة حيث لم يتسع لها البحث، وهذه النتائج جاءت على النحو التالي: أن النهوض بالبلاغة العربية لن يتم دون النهوض بالشاهد البلاغي. إن عملية انتخاب الشاهد البلاغي ليست بالأمر الهين " فلم يكن الاختيار عملية يسيرة، بل كانت عندهم دقيقة لا تقل – في عسر مخاضها – عن عملية الخلق والإبداع ذاتها، وهي تحتاج إلى أدوات صارمة في التمييز والتنقيح، فضلا عما ينتظر القائمين عليها من التشبع بالنصوص، وطول معاشرتها " يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني كدليل على صدق كلام صاحب المدونة وهو يتحدث عن الصعوبة، التي يتجشمها الباحث عن المزايا، التي عرضت بسبب "معاني النحو": " ثم إنك تحتاج إلى أن تستقري عدة قصائد بل أن تفلي ديوانا من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات" إذا كانت اللغة تشبه الكائن الحي، وأن هذا الكائن مكون من أعضاء منضم بعضها إلى بعض، فهكذا حال اللغة، لابد من دراستها، وقد التحمت مكوناتها من نحو، وصرف، وبلاغة، في سياق نظم واحد، وهذا ما يحققه مصطلح " النظم " الذي يقضي تلقائيا على ما عرف بقضية اللفظ والمعنى، وهذا ما سعى عبد القاهر الجرجاني إلى التأكيد عليه، أما حالة التجزئة التي عليها لغتنا فقد صنعت منها كائنا مقطع الأوصال: العظم في جهة (ويمكن أن نمثله "بالنحو" في حال اللغة، حيث أصبح النحو كالهيكل العظمي الخالي من أي جمال على أهميته في إقامة صلبها). واللحم في جهة ( وهو الذي يمكن أن تمثله البلاغة، وقد فصلت عن النحو، وسميت " المعاني " و"البيان " و " البديع " فكانوا كالأيتام في هوانهم على الناس، وقد تركت البلاغة دون سند تعتمد عليه، ويتجمل هو بها). وما نظرية عبد القاهر الجرجاني في "معاني النحو"، وحماسه الشديد في تبصيرنا بأهميتها، إلا للقضاء على هذا الخطر الداهم على كل من: اللغة، والإعجاز، ورد اللحم على العظم، والكسوة على الهيكل، للحصول على الحياة بعد القتل. وهذا ما اشار إليه الدكتور محمد منذور في كتابه "النقد المنهجي عند العرب" معرفا النقد بقوله: "النقد في أدق معانيه هو فن دراسة النصوص والتمييز بين الأساليب المختلفة" والنص كل متكامل بنحوه وصرفه، ألفاظه ومعانيها، بيانه وبديعه ومعانيه، وإذا تجزأ فقد كيانه، وكيانه يكمن في النظم الذي اجتهد الشيخ في توضيح مراتبه، الأمر الذي بوأه المكانة التي يستحق، وفي ذلك يقول الدكتور محمد منذور أيضا: " وفي الحق إن عبد القاهر قد اهتدى في العلوم اللغوية كلها إلى مذهب لا يمكن أن نبالغ في أهميته، مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظير. وعلى أساس هذا المذهب كون مبادئه في إدراك (دلائل الإعجاز)، مذهب عبد القاهر هو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة في أوروبا لأيامنا هذه، هو مذهب العالم السويسري الثبت فردناند دي سوسير الذي توفي سنة 1913 م، ونحن لا يهمنا الآن من هذا المذهب الخطير إلا طريقة استخدامه كأس لمنهج لغوي "فيولوجي" في نقد النصوص" التأكيد على أن الشيخ قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكل مطلع على كتب الشيخ يدرك هذه الحقيقة، وبقي الأمر أمانة في أعناقنا، في أن نعيد الأمور إلى نصابها، وندرس لغتنا: إما بالاستمرار على طريقة المعتزلة، كما هي موضحة في كتاب "سر الفصاحة" لابن سنان الخفاجي، الذي نكس البحث البلاغي على رأسه من البحث في الإبداع إلى البحث في الحروف، ونترك مناهجنا على حالها بكل ما فيها من لا منطقية ولا جمال، الأمر الذي ترتب عليه كره الأجيال الحالية واللاحقة للبلاغة و للغة القرآن، وانصرافهم عنها إلى اللغات الأخرى، القاصرة أن تبلغ في معانيها ما بلغته لغتنا. وإما أن ننهض إلى إتباع الحق الذي وضحه الشيخ، وتحدى أن يأتي أحد بخلافه – فلم يأت أحد بخلافه - ودعا إليه في دلائل الإعجاز، وأيدته فيه كل الدراسات اللغوية الحديثة، في ضرورة دراسة اللغة في سياق نظمها، وأن الأحكام على "الألفاظ المفردة " أو " الحروف " أو "المعنى " دون نظر إلى السياق، لهو من الظلم لكل نظم، ذلك لأن الناظم لا يصنع في "الحروف " مفردة، ولا في"الألفاظ " مفردة، ولا في "المعاني" مفردة شيئا، وإنما يحاسب ويقوم على نظمه، وطريقته في تقديم معانيه، فهذا مجال عمله، ولطالما شبهه الشيخ بالصائغ، والنساج، والبناء، الذي لا يصنع في المواد الأولية شيئا، وإنما ينحصر مجال عمله في صنعته. والذي يقوم بهذه التجزئة فحاله يشبه حال من وجد باقة ورد جميلة، صنعتها يد منسق بارع، ووزعت فيها الألوان بشكل عبقري، فرأى في نفسه أن يعيد تنسيقها بحسب مكوناتها، فجمع الورود الحمراء في باقة، والصفراء في باقة، والبيضاء في باقة، وجمع النباتات الخضراء التي كانت تتخلل الباقة فجعلها في حزمة مفردة، لقد حقق الترتيب المنشود ولكنه قضى على ما كان يسمى باقة ! تدعو الدراسة إلى ضرورة تخليص البلاغة من المسحة الطائفية التي أحاطت بها، وأخرجتها عن مسارها، فالاستدلالات التي جاء بها ابن سنان الخفاجي في كتاب سر الفصاحة ما هي إلا تكميل لعمل كل من: القاضي عبد الجبار، والرماني المعتزليين، فقد تحدث الأول عن الفصاحة دون أن يدعم كلامه بالشواهد، ونسب الآخر الإعجاز للتلاؤم دون أن يفصل القول فيه، فجاء عمل ابن سنان مكملا لعملهما. توصل البحث إلى أن الشواهد في المؤلفات البلاغية، يمكن ردها إلى ثلاثة منابع رئيسية وهي: شواهد الجاحظ. شواهد عبد القاهر الجرجاني. شواهد المغاربة. وإذا كان لا أحد ينكر اعتماد جل البلاغيين الذين جاءوا بعد عبد القاهر على مؤلفاته من أمثال الرازي، والسكاكي، والقزويني والخطيب، وغيرهم، فإن الإجماع يكاد يكون مسلما به على أبوة الجاحظ لعلم البلاغة العربية، سواء في أصولها أو شواهدها، وفي ذلك يقول الدكتور علي عشري زايد: "وقد احتوى الكتاب " البيان والتبيين " على مجموعة من أهم الأصول البلاغية الأولى التي قامت عليها دعائم علم البلاغة فيما بعد، والتي جعلت مؤرخي البلاغة يعتبرون الجاحظ واحدا من الآباء الشرعيين الأول لعلم البلاغة، على الرغم من أن الكتاب لا يشتمل على نظرية علمية متكاملة، أو حتى على قضايا بلاغية محددة، وإنما هي أفكار بلاغية متناثرة هنا وهناك، وسط حشد هائل من النصوص والأخبار الأدبية، وتراجم الأدباء ولكن هذه الآراء المتناثرة كانت هي البذور التي نماها البلاغيون فيما بعد، والأصول الأولى التي شادوا عليها صرح البلاغة العربية " ولعله هذا هو السبب الذي جعل الشيخ عبد القاهر الجرجاني يرجع للجاحظ مباشرة، لأن الذين جاءوا بعده اعتمدوا على شواهده، وتبنوا آراءه البلاغية و النقدية. كل من يحاول أن يكتب عن البلاغيين القدماء الذين أسسوا لعلم البلاغة من طريق ما كتبه المحدثون عنهم فإنه سيضل الطريق، وكل من يحاول أن يكتب عنهم بعد قراءة فقرات من مؤلفاتهم هو الآخر سيضل الطريق، وذلك بسبب اعتمادهم على التأليف التراكمي الذي سببه اعتمادهم على ذاكرتهم وهم يكتبون، فتكثر عندهم الاستطرادات والتكرار، ثم يعودون إلى الفكرة التي كانوا بصددها. فالطريق السليم للتعامل مع كتب التراث البلاغي إنما هو التمرس المتكرر بتلك الكتب حتى يتمكن الدارس من إدراك معنى ما يكتبون، وإن الذي يقرأ كتاب "دلائل الإعجاز" مثلا عشرين مرة فقط فلن يفهم مغزى ما يكتبه عبد القاهر الجرجاني. وإن الذي يأخذ فقرات من كتاب دلائل الإعجاز يؤسس عليها كتابا عن عبد القاهر الجرجاني فلن يحصل على الدقة المبتغاة مما يفعل. وبالمثل كتاب منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني، وكتاب المنزع البديع للسجلماسي وغيرها. يقول الدكتور محمد منذور في مقدمة كتابه "النقد المنهجي عند العرب: "وفي الحق إن في الكتب العربية القديمة كنوزا نستطيع إذا عدنا إليها وتناولناها بعقولنا المثقفة ثقافة أوروبية حديثة أن نستخرج منها الكثير من الحقائق التي لا تزال قائمة حتى اليوم" من المسائل الهامة التي استنتجها البحث أن البلاغيين القدماء في مجملهم كانوا يردون بمؤلفات على مؤلفات يصححون بها ما يرونه يجانب الصواب في تلك المؤلفات، كما ينتقد بعضهم آراء البعض الآخر دون إشارة إلى صاحب ذلك الرأى، والباحث المدقق يستطيع أن يتذكر أين قرأ هذا الرأي، ثم يربط بين الآراء ويخرج بنتيجة. وليس السبب في أنهم لا يذكرون اسماء المخالفين أنهم يستنقصونهم، بل السبب أنهم لا يوجهون نقدهم للذوات وإنما النقد موجه للأفكار والآراء. ومن أوضح النماذج على ذلك هو موقف الباقلاني من الوجوه العشرة التي فسر بها الرماني البلاغة، وحصرها في تلك الوجوه، ثم نسب الإعجاز للوجه البلاغي، فعارض الباقلاني هذا التوجه بشدة، واضطره الأمر أن يستعرض جميع تلك الوجوه الواردة عند الرماني ويرد عليها واحدا واحدا، كما أن الباقلاني كان يعارض حصر البديع في عدد من الوجوه، ولذلك استعرض منه أشكالا عديدة استشهد لها من القرآن والشعر والنثر والأقوال وغيرها ؛ ليبين أن الوجوه غير محصورة، غير أن مجرد وجود الوجوه التي ذكرها الرماني بأجمعها في كتاب إعجاز القرآن للباقلاني جعلت الدكتور عبد القادر حسين يقول في كتابه "أثر النحاة في البحث البلاغي": "وبهذا الباب العاشر تنتهي أقسام البلاغة عند الرماني التي كان لها أجل الخطر على الدارسين بعده في نهاية القرن الرابع الهجري، والقرون التالية حتى نهاية القرن الثامن الهجري، فمنهم من أعجب بها، وأخذها على علاتها دون مناقشة، بل أتى كالجراد على الحقل البلاغي للرماني فلم يبق منه شيئا ولم يذر، وإنما التهم كل ما صادفه كما فعل الباقلاني". ولو تمت قراءة الباقلاني بشكل أكثر وعيا لجعلت طريقا إلى تحرير البلاغة العربية من الأقفاص التي صنعها لها الرماني وسجنها بها وسماها وجوها. وقد أشار صاحب المدونة إلى ذلك وهو يسعى إلى إيجاد سبيل لإنقاذ البلاغة فقال: فإن رأى المشتغل بالبلاغة اليوم من الضروري أن يفك حصار النمذجة والتنميط الذي ضرب على جل المواد الأدبية المنزلة في رسالة الرماني بنسبة أقل، وفي مصنفي العسكري والباقلاني بصفة أجلى وأوضح، فليس إلا أن يعود إلى نصوص الجاحظ والجرجاني، فأما مع الأول: فالمادة لا تزال طليقة حرة، تتحرك في النص بشيء من الأريحية. وأما مع الثاني: فقد عرفت المادة المنتدبة متنفسا جديدا؛ لأنها اخترقت جدار التنميط، وتجاوزت الحدود المصطنعة في التصنيف والتقسيم؛ إما لتعانق الأصول الأسلوبية والبلاغية عند الجاحظ من جديد، أو لتعرض المادة القديمة والمستحدثة في آن على مناهج أخرى تأليفية في النظر والتحقيق، سواء من جهة الأصول التصويرية، والتخييلية الكبرى الجوهرية، أو من جهة مبادئ الضم والتعليق. ثم أشار صاحب المدونة إلى ما يمكن تسميته بـ فضل عبد القاهر: قال: "ولهذا الرجل في نظرنا فضل كبير في تحويل وجهة البلاغة ودفعها نحو دوائر متسعة من الانفتاح والامتداد والتواصل، وإخراجها من البؤرة الضيقة التي كادت تتردى فيها بموجب الحصار الذي ضرب على الشعر من جراء الشروط المجحفة إن في الصناعة أو في الصنعة ".