ملخص
الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وأفضل من نطق بالضاد وبعثه الله رحمة للعباد. الحمد لله أوّل الكلام، والحمد لله آخر الكلام، ربّ صلّ وسلّم وزد وبارك على أحسن الأنام. وبعدفإني الباحث الفقير إلى الله تعالى أرى حين أختم هذا العمل جملة من النقاط التي منها: رضيّ الدين الإستراباذي شيعيّ، وبكلّ وضوح من خلال شواهده من نهج البلاغة للإمام عليّ، ووروده في كتب أعيان الشيعة، والفاضل الجاميّ نقشبنديّ كما هو مبيّن في الحياة العلميّة من خلال التمهيد. كافية ابن الحاجب كتاب ثمين انكبّ عليه الشرّاح لذيوع صيته فوق البسيطة، وهي مع وجازتها تعدّ تقدّماً ملحوظاً في ظهور المصنّفات التي تختصّ بالنحو. يعدّ شرح الرضيّ موسوعة نحويّة أسهمت إلى حدّ كبير في علوّ مكانة الكافية بين مصنّفات الأمّة، ولا يقلّ شرح الفاضل الجاميّ شأناً عن دوره في إبراز قيمة الكافية. الشواهد الشعريّة عند الرضيّ بلغت ما يقرب من (1000) ألف شاهد، وهي تشكّل الجانب الأعظم، وقد أوليتها عناية كبيرة، وهي تفوق شواهد الفاضل الجاميّ التي وصلت إلى أكثر من (60) إذا علمنا أن شواهد الجاميّ تقلّ عن شواهد المصنّف في شرحه التي تصل إلى أكثر من (70) سبعين شاهداً. لم يتقيّد الرضيّ بحدّ النحاة في الاستشهاد بالشعر، وهو ما يعرف بساقة العرب، فاستشهد بشعر المولّدين، وليس هذا فحسب، فقد كسر حاجز الاستشهاد من الحديث الشريف، ويمكن القول بأنّه كان على نهج ابن مالك في التسهيل. في حين التزم الفاضل الجاميّ بذلك، فلم أجد عنده شيئاً من شعر المولّدين، وكان مقلاً في استشهاده بالحديث الشريف. رضيّ الدين الإستراباذي بغداديّ متأخّر، ونزعته نزعة بصريّة، والفاضل الجاميّ بصريّ. رضيّ الدين الإستراباذي عالم جليل مفكّر بشخصيّة مستقلّة إلى حدّ كبير، والفاضل الجاميّ عالم جليل تربوي متأثّر بالمصنّف ابن الحاجب ورضيّ الدين الإستراباذي من خلال نقوله الكثيرة، واهتمامه بآراء ابن الحاجب، فجاء شرحه وسطاً بين شرح الرضيّ وشرح المصنّف. للرضيّ اعتراضات على المصنّف والنحاة وهي تشكّل رسالة علميّة كبيرة، والجاميّ وإن اعترض على ابن الحاجب أو بعض النحاة إلا أنّها تعدّ أقلّ بكثير عمّا هو عند الرضيّ، وتبدو اعتراضاته راجعة إلى استفادته من حاشية الشريف الجرجانيّ على شرح الرضيّ. اهتمّ الرضيّ اهتماماً بالغاً بمسائل الخلاف، وهي تشكّل جانباً مهمّاً في الشرح، وإن اهتم الفاضل الجاميّ بالمسائل الخلافيّة إلا أنّه لا يصل إلى مرتبة الرضيّ. يمتاز أسلوب الرضيّ بالفلسفة والتفكير المنطقيّ كما هي سمة عصره في حين يغلب على شرح الفاضل الجاميّ الأسلوب التعليميّ، وله العذر، وكيف لا؟ وقد جعل هدفه أن يكون شرحه هديّة تعليميّة لابنه ضياء الدين يوسف وللمتعلّمين. شرح رضيّ الدين الإستراباذيّ مليء بالعلل النحويّة ولا سيّما العلّة التعليميّة التي تطالع القارئ في كلّ صفحة، في حين تقلّ العلل عند الجاميّ باستثناء العلل التعليميّة التي لابدّ منها لإقامة القاعدة. رضيّ الدين الإستراباذيّ يأخذ بالقراءات غير المتواترة. وقف الرضيّ موقفاً وسطاً بين الكوفيّين والبصريّين حيث أيّد الكوفيّين أكثر من تأييد ابن الأنباريّ لهم. الجاميّ قد تأثّر بمنهج الرضيّ في استشهاده بكلام الله ـ سبحانه وتعالىالأمر الذي جعل هذا التقارب، وإن كان استخدام الشواهد القرآنيّة عند القدامى لا يحيد عن هذا النمط سواء من أتى بعد الرضيّ (688 هـ) وقبل الفاضل الجاميّ ( 817 هـ ) مثل بدر الدين ابن جماعة. كان الرضيّ يكثر من الاحتكام إلى أساليب القرآن في المسائل النحويّة التي يناقشها. ويكاد يلتزم بذلك في سهولة ويسر، ودون تكلّف، وقد احتجّ بآيات من كتاب الله، فيما يربو على ألف موضع في شرحه. وكان إذا لم يجد شاهداً قرآنيّاً في موضع من المواضع، يذكر ذلك صراحة. مثال ذلك قوله: عند الكلام عن الفصل بين المبتدأ والخبر بضمير الرفع المنفصل: (( وجوّز بعضهم وقوعه قبل العلم، نحو: (إنّي أنا زيد)، والحقّ أنّ كلَّ هذا ادعاء، ولم يثبت صحّتها ببيّنة من قرآن أو كلام موثوق به)) ويبدو أنّ الرضيّ قد نسي قوله تعالى: )إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ( ثمّ إنّ الرضيّ لم يكن ناقلاً لما جاء به من شواهد قرآنيّة، ممّن سبقوه من النحاة، فهو يختلف مع سيبويه مثلاً في هذه الناحية ؛ إذ كان يستشهد في بعض الأحيان بالآية القرآنيّة نفسها، ولكن في مناسبة تختلف، وأحياناً أخرى كانت المناسبتان تتّحدان، ولكن آيتا الاستشهاد تختلفان. اتّبع الرضيّ سنّة أسلافه من النحاة في أسلوب الاستشهاد القرآنيّ، فهو غالباً ما يقرن المثال الذي يأتي بنظيره من القرآن الكريم دون التزام بمنهج معيّن في ترتيبهما من حيث التقديم والتأخير. احتجّ الرضيّ بحوالي ستّين مثالاً من القراءات الشاذّة، وكان ينسب القراءة لقارئها في بعض الأحيان، وفي بعض الأحيان الأخرى يكتفي بالإشارة إلى أنّها قراءة شاذّة. والواقع أنّ الرضيّ لم يكن أوّل من احتجّ بالقراءات الشاذّة، واجتهد في توجيهها من النحاة واللغويّين. فقد سبقه من علماء العربيّة الأفذاذ في هذا المضمار: أبو الفتح عثمان بن جنّيّ في القرن الرابع الهجريّ، فقد جمع القراءات الشاذّة في كتاب ألّفه لها، سماه (المحتسب في تبيين وجوه شواذّ القراءات والإيضاح عليها) واحتجاج الرضيّ بالقراءات الشاذّة أمر يتّفق تماماً مع رأيه في القراءات المتواترة، ويتّسق مع خطّ تفكيره فيها، فهو لا يأخذ بكلّ القراءات القرآنيّة، ويسوّي بين أنواع القراءات في الاستشهاد. ضعّف الرضيّ القراءات القرآنيّة، وطعن فيها أحياناً أخرى، ومن ذلك تضعيفه قراءة حمزة الكوفيّ في قراءة قوله تعالى: ) وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ ( وطعن في قراءته قوله تعالى: ) وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ (. ولم يغفل الرضيّ التعرض لما اختلف القرّاء فيه من إظهار وإدغام، وإشمام ومدّ وقصر وتضعيف وتخفيف، وتعرض لأغلب هذه الموضوعات في مواضع مختلفة من شرح الكافية، في ثنايا موضوعات أخرى. وتعرض لبعضها الآخر تحت عناوين مستقلّة من ذلك في شرح الكافية، تناوله لموضوع الإشمام تحت عنوان مستقلّ، عند كلامه عن بناء الفعل للمجهول. وهو يقول: (( وأمّا الإشمام فهو فصيح، وإن كان قليلاً )) ذلك أنّ الإشمام نوع من أنواع ثلاثة للوقف على أواخر الكلم، ثانيهما الروم، وثالثهما الإسكان المحض، وهو الأصل. إنّ الرضيّ كان يعتدّ بأقوال النحاة، وما وضعوه من قواعد، فيأخذ بها، وقد لا يعتّد بالقرّاء السبعة إذا خالفوا في قراءاتهم مذهبه النحويّ. وكان المبدأ العامّ عنده الاعتداد بكلّ قراءة بصرف النظر عن كونها متواترة أو شاذّة، وتصويبها ما دامت توافق مذهبه في العربيّة. ومنهج الرضيّ في الاحتجاج بالقراءات الشاذّة منهج سليم ؛ حيث أخذ بالقراءة الشاذّة (حاشاً لله) بالتنوين ليبرهن على رأيه في (حاشا) في قوله تعالى: ) حَاشَ لِلَّه( وإذا كان الرضيّ يحتج بالبيت الذي لا يعرف قائله أو بعبارة أخرى، إذا كان هذا شأنه مع الشواهد التي قالها العرب، فليس بمستغرب أن يستشهد بقراءة منسوبة إلى قارئها، مشهور بين الناس أمرها، متّصلة بالرسول في سندها، موافقة للعربيّة على وجه من وجوهها، في حين يقلّ هذا النمط عند الفاضل الجاميّ. أمّا اعتراض الرضيّ على القراءة القرآنيّة ؛ لأنّها لا توافق مذاهب النحاة، حتّى ولو كانت قد سمعت في لغة غير مشهورة من لغات العرب اعتراض غير صحيح، ذلك أنّ مقاييس العربيّة ينبغي أن لا تجري على ما روي من القراءات، كما ينبغي أن لا تردّ قراءة ؛ لمخالفتها لهذه المقاييس. وإنّما يجب أن يحتجّ بالقراءة على قواعد النحاة ومقاييسهم، مادامت هذه القراءة متّصلة السند بالرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ولها وجه من كلام العرب، حتّى ولو كان على قلّة. والرضيّ في تحكيمه القواعد النحويّة، ومقاييس العربيّة في القراءات القرآنيّة، يسلك مسلك القياس والنظر لا مسلك الرواية والأثر، أو بعبارة أخرى هو يتّبع في الاحتجاج للقراءات مدرسة القياس البصريّة بما لها من طابع تحكيم مقاييس العربيّة في القراءات المرويّة. إنّ الرضيّ اتّخذ إزاء القراءات القرآنيّة موقفاً وسطاً بين موقف الكوفيّين وموقف البصريّين منها. اتّجه نحو السمة العامّة للكوفيّين في الاحتجاج بالقراءات حتّى الشاذّ منها. ونهج منهج البصريّين في التشدّد في تحكيم القواعد النحويّة في القراءات المرويّة عن الرسول عليه الصلاة والسلام. استطاع الشيخ الرضيّ أن يضمن للغة النموّ، ويجعلها حيّة متجدّدة، وأن يمنع عنها العقم بفتحه باب الاستشهاد من شعر المولّدين ولم يكن على ذلك الفاضل الجاميّ. وردت المصطلحات الكوفيّة عند الرضيّ على قلّة مثل الجحد والنسق والعماد والقطع بينما لم أجد عند الجاميّ إلا مصطلح النعت من المصطلحات الكوفيّة. لمّا كان للرضيّ شخصيّته المستقلّة فقد انفرد لآراء منها: أنّ الجملة تعمل في المستثنى النصب ؛ لتمامها لا لمعنى الفعل فيها سواء أكان معنى الفعل فيها أوّلاً أم لا. بينما لا تتوافر هذه الصفة عند الفاضل الجاميّ، والرضيّ وإن كان بغداديّاً فإنّه لم يأخذ برأي البغداديّين كما علمنا في عامل النصب في الفعل المضارع بعد واو المعيّة. يظهر النحو البصريّ في الشرحين: شرح الرضيّ وشرح الجاميّ على النحو الكوفيّ. وإن غلبت النزعة البصريّة على الرضيّ إلا أنّه أخذ برأي الكوفة أحياناً نحو القول في رافع المبتدأ، وفي جواز إضافة الاسم إلى اسم يوافقه في المعنى، وفي القول في رافع الفعل المضارع، وقد أخذ بهذا الجاميّ كما أخذ عنهم في مسألة ترخيم الرباعيّ. وقد اتّضح لي أن كلّاً من شرح الرضيّ والجاميّ على الكافية تضمّن موضوعات مهمّة للدراسة منها: الخلاف النحويّ من خلال فكر الرضيّ. العلل النحويّة من خلال شرح الرضيّ. آثار الرضيّ في شرح الجاميّ.