نظرية المحاكاة والتخييل بين حازم القرطاجني والسجلماسي

تاريخ النشر

2012

نوع المقالة

رسالة ماجستير

عنوان الرسالة

كلية الآداب - جامغة طرابلس

المؤلفـ(ون)

إبراهيم الهادي أبو عزوم

ملخص

فبعد هذه الرّحلة والمعايشة الطويلة مع هذه الرّسالة، يمكنني حوصلتها في نبذة مختصرة وإعطاء تصور موجز عن أهمّ النّتائج والثّمرات التي توصّلتُ إليها، علاوة على ما سأوصي به من توصيات، فقد توصّلتُ إلى النّتائج الآتية: إنّ مصطلح التخييل مصطلح فلسفي أخذ عن أفلاطون وأرسطو، فانطلق من بحوث الفلسفة، وأدخل في الأبحاث البلاغية والنقدية التي تحمل معاني المخادعة والتأثير وإثارة التعجب، فدرس التخييل تحت علم البيان الذي يشمل التّشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والتّمثيل. ويدل في حقل الأدب والشّعر والنقد بصورة عامّة على الصور الحسّية في الذّهن، ويعبر عن فاعلية الشّعر وخصائصه النوعية، ويصف طبيعة الإثارة التي يحدثها الشّعر في المتلقي. إنّ فنّ التخييل نظرية إسلامية أصيلة، بدأ عند الفلاسفة المسلمين بأصل، وإن كانوا استفادوا من اليونانيين كمصطلح وكتسمية، ثم قَنَّنَ لها في مظهرها الفلسفي ابن سينا، وتبناها من بعده الفلاسفة المسلمون والبلاغيون، وصاغها ووسعها حازم القرطاجني، حيث تمثّلت فكرة التخييل عنده تصوراً عاماً للصناعة الشعرية، فهو البلاغي الوحيد الّذي اعتنق هذه الفكرة بحيث تكاد تكون نظرية عامّة يطبقها على طبيعة فنّ الشّعر ووسائله التّعبيريّة. إنّ حازماً والسّجلماسي ينتميان للمدرسة الفلسفية المغربيّة، ومما يلفت النظر في دراسة هذين العالمين أنّ المنهاج والمنزع على الرّغم من إفرادهما حيزاً كبيراً لدراسة المحاكاة والتخييل إلاّ أنّ الغرض الرئيسي عندهما ليس معرفة المحاكاة والتخييل فقط بل هدفهما دراسة تطوّر النّقد والبلاغة في عصرهما وقبل عصر كل واحد منهما. وقد ذهب معظم النّقاد باعتبار المحاكاة والتخييل عنصران رئيسيان في (المنهاج) بل أنّه الغاية فيه. تتقارب رؤية حازم والسجلماسي بأنّ التخييل فنّ من فنون البلاغة العربية والنقدية، فهو مصدر للصور البيانية، فمزجوه في تفكيرهم البلاغي والنقدي، ففكرة التخييل من أبرز الفكر التي عالجها حازم في(المنهاج) بقدر كبير، والذي يعدّ من أكثر النّقاد في عصره شغفاً بالتخييل والمحاكاة، ومن أوسعهم علماً بأسراره، حيث اتبعه السجلماسي في ذلك، فكان السّجلماسي بِدْعاً بين المشتغلين بالبلاغة والنّقد، حيث ربط مبحث المحاكاة والتخييل بالمباحث البلاغية والنّقدية وخاصّة المباحث العشرة التي تناولتها سابقاً. وتتقارب وجهة نظرهما في أنّ التخييل عماد الشعر وعموده الفقري وجوهره، وبه يتقوَّم، ولذلك يختلف عن الإقناع الّذي هو عماد الخطابة التي تتقوَّم به. فكل معنى أو أسلوب لا قيمة له إذا كان لا يحقق التخييل العجيب، فحازم والسجلماسي قد نهجا منهجين متقاربين في المفهوم العام للمحاكاة والتخييل وكلّ ماله علاقة بهما. فالمادّة الأدبيّة عند حازم والسّجلماسي وحدة منسجمة، تكاد تكون واحدة في بعض المواضع، فقد حللا التخييل على أنّه جزء لا يتجزأ من العمل الفنّي، وتحدثا عن تكوّنه وإنشائه ووجوده، وبهذا يكون: الشَّعر كلام مخيِّل ومخيَّل عندهما. تتقارب رؤيتهما بأنّ التَّخييل لا ينافي اليقين؛ لأنّ الشّيء ربما خيَّل على ما هو عليه وربّما حدث العكس وسبب ذلك أنّ الأسالب الشّعريّة لا تحدث أبداً في أسلوب واحد من أحد النقيضين، هما الصّدق والكذب، بل ترد الأقاويل تارة صادقة وتارة أخرى كاذبة، ومؤدى الأساس هو أنّه غالباً لا يتذوق بالشّعر من حيث كونه صدق أو كذب، بل يتذوق به ويتقبله المتلقي من حيث كونه كلام مخيِّل. يتقارب موقفهما في أنّ التخييل هو القول المخترع المستفز المتيقن كذبه، فيرى كلاً منهما أنّ القضية الشّعريّة تؤخذ من حيث هي مخيلة، فالتخييل عملية تسبق الانفعال النفسي، وأنّ المعاني العقلية ليست من جوهر الشّعر وإن لبست رداءه مع أنّهما لايقللان من دورها في رسم الصورة، فيرى كلاً منهما أنّ القيمة في الشّعر ليس ما يتمتع به من الصدق أو الكذب بل بما فيه من الصناعة المتمثلة على الأخيلة الدقيقة، فالتخييل لا ينافي اليقين، فلا يعدّ الشّعر شعراً من حيث هو صدق ولا العكس بل يعدّ شعر شعراً لكونه كلاماً منظوماً مخيّلا. يرى كلاً منهما أنّ التخييل يتعاطى بشكل فاعل من جهة النظم والوزن والأسلوب، كما أنّ اللفظ والمعنى محوران مهمان لتقديم صورة خيالية رائعة، فالتخييل إيهام وهو منوط بالشّعر، ويكون قوياً إذا كان حسّياً لا ذهنياً. يؤمنان بأنّ التخييل مصدر لكلّ الإلهام، فيرى كلاً منهما أنّ التخييل يتجاوز قضية الصدق والكذب في الشعر إلى التصديق به باعتباره مصدر وحي وإلهام، فتمثّل المحاكاة والتخييل عند هما الحقائق الصادقة التي يقبلها العقل والمنطق والتي تعتمد الأساليب المباشرة التي تصور الأمور تصويراً واضحاً. تباعد منهج كتابيهما، فقد تأثرت ثقافة حازم بالثقافة العربيّة واليونانيّة فأثرت على مضمون الكتاب ومصطلحاته، فقدم تعريفاً للشعر والتخييل والمحاكاة والوزن، واللفظ والمعنى وغير ذلك من القضايا النّقدية والبلاغيّة بأسلوب ميزّه عن غيره من فلاسفة المغرب العربيّ، فكتاب المنهاج متعدد التخصصات في اللّغة والنقد والبلاغة والأدب والفلسفة والمنطق، وكذلك كتاب المنزع إلاّ أنّه ركزّ على الجوانب البلاغيّة والنقدية أكثر. ربط حازم فنّ التخييل والمحاكاة بمفهوم الشعر بشكل عام، واعتبره العمود الفقري في كلّ الأعمال الابداعية للشاعر، فالشاعر الذي يجيد التخييل هو شاعر مخترع يشهد له بالنبوغ، أما السجلماسي فقد تحدث عن التخييل واعتبره جنساً مستقلاً من أجناس علم البيان، فيرى أنّ التخييل يضمّ أهمّ جزئيات البلاغة أمثال المباحث الأربعة التي ذكرها في كتابه. لقد اتّخذ حازم الشّعر موضوعه الأوّل، وجعل سوء أحوال نظمه وتلقيه هاجساً أرقه مما فجّر أسئلةً كثيرةً لديه، سعى من خلال الإجابة عنها إلى رسم سبيل جديد لعلم البلاغة والصناعة الشّعرية خاصّة، وفي سبيل سعيه لتقديم آرائه في المحاكاة والتخييل، استفاد في غمار هذا الموضوع من تراث العرب خاصة من خلال الفارابي وابن سينا من جهة، ومن تراث أرسطو من جهة أخرى، وقد عاهد حازم متلقيه منذ صفحات منهاجه الأولى بأن يسلك طريقاً لم يسلكها أحد قبله، وقد وفَّى لكل باحث وقارئ بعهده، كما أثبت للقارئ أنّ مسلكه لم يسلكه أحد بعده أيضاً. إنّ كتاب المنهاج قد حقّق امتداداً طيباً لدى رواد المدرسة المغربيّة لم يجعلهم يستفيدون منه فقط، بل أبان على تفوقه عليهم في تميّزه بمقصده المتمركز حول التخييل خاصّة. وأما السجلماسي فقد إتخذ البديع موضوعه الأوّل، ثم تطرق إلى قضايا نقدية وبلاغية عدّة، واعتبر التخييل جنس من الأجناس العليا للبلاغة والنّقد. فجنس التخييل يتواطئ على أربعة أنواع: التشبيه، والاستعارة، والتمثيل، والمجاز. وقد إستفاد السجلماسي بالكيفية التي بنى حازم بها رؤيته البلاغية في كتابه منهاج البلغاء فأدرك أنّ حازماً أراد أن يبني للبلاغة مجدها في إطار نظرة شمولية لا تفصلها عن كافة المظاهر العملية الشّعريّة، غير أنّ هذا المجد البلاغيّ لن يدوم طويلاً؛ إذ سرعان ما عكر صفوة ما عرفته البلاغة على يد السجلماسي من انتكاس وتراجع إلى وضعيتها القديمة من عقم وصياغة منطقية، ضيقة مفتقرة إلى المرونة الذوقية – التي هي من متطلبات العمل الأدبي- وقاصرة على استيعاب أطراف العمل الأدبي وجمع سائر الأفكاره في إطار نظرة متكاملة متماسكة على نحو ما وجد عند حازم مثلاً. تناول حازم قوانين الكلام تنظيراً وتطبيقاً بوعي كامل، وإدراك حقيقي لأبعاد الصناعة الشّعريّة، فقد استفاد من الكتابات النقدية والبلاغية اليونانية، واستنطق النصوص الأدبية العربية بعقل واعٍ وذوق رفيع فاستطاع أن يبلور نظرية في الشّعر والشّعرية، تستند إلى مجموعة من القوانين والنظم التي تتحكم في عملية إنتاج النصوص الشّعريّة من ناحية، ونقدها وتحليلها وكشف أبعادها من ناحية أخرى. فكان واعياً بقوانين الصناعة الشعرية، والوسائل الفنّيّة الداعمة لها. فقد حصر حازم قواعد التخييل في الشّعر في أربعة أنحاء، ناحية المعنى، واللفظ، والأسلوب، والنظم والوزن، ويرى أنّ هذه الأنحاء مختلفة في القيمة والدور، ولقد توصلت إلى أنّ هذه الأنحاء الأربعة التي أشار إليها حازم في الحقيقة ثلاثة؛ لأنّ القسم الأوّل من كتابه الذي بحث فيه اللفظ الذي يعتبر ناحية من النواحي الأربعة لم يصل إلينا فدمجت قضية المعنى باللفظ فأصبحت ناحية واحدة، فتسير الأنحاء إذن ناحية اللفظ والمعنى، والأسلوب، والنظم والوزن، وهذا ما حاولت أن أفك مغاليقه، وأحدد أبعاده في ضوء فهمي ورؤيتي القاصرة لفنّ التّخييل. لقد اهتم حازم بالقوى المشاركة في عملية الأداء الفنّي، فأعطى للفنّ الإبداعي عنواناً عاماً، هو (التّخييل)، موضحاً دوره في إطار سلسلة من العمليات تحصل على مستوى الوعي والإرادة، مما سيكون له أثر على صلة العمل الإبداعي بمقاييس المعقول والواقع، وقد ارتبط في العمق بتصورات الفلاسفة المسلمين اللذين فهموا الشّعر باعتباره عملية تخيلية تتم في رعاية العقل، فأعتبر الخيال إمّا أولياً أو ثانوياً. فالخيال الأولي في رأيي هو القوّة الحيوية أو الأولية التي تجعل الإدراك ممكناً، وهو تكرار في العقل المتناهي لعملية الخلق الخالدة في الأنا المطلق، أمّا الخيال الثّانوي فهو في عرفي صدى للخيال الأولي، وهو مع الإرادة الواعية في الخيال الثّانويّ، أو الخيال الشّعريّ. لقد تميزّ حازم عن غيره من النقاد بميزةِ وأصالةٍ في آنِ واحدِ، ولا يكمن ذلك في استعماله مصطلحات جديدة عن بيئة سالفيه ممثلة في التخييل والمحاكاة؛ لأنّ غيره استعملها أيضاً، كما ورد ذكره عند السجلماسي ولكن ميزته هي معرفته كيف يحلق بهذين المصطلحين بعيداً، ويحط بهما في أجواء النَّفس، حيث التحريك والاهتزاز والأثر. إنّ حازماً قد أبان عن علو كعبه وامتداد أمده في النقد والبلاغة، حيث استطاع بعبقريته أن ينتقل من الاستمداد إلى الامتداد دون إلحاق ضرر بأصالته وابتكاره حيث أجاد توظيف ما استمده فحقق به الامتداد الواسع المستمر؛ لأنّه ربط الشّعر بحركات النفس الإنسانية، فجعل نقده وخطابه يقدم أطيب العون لهذه العملية، فترك نقده في النفوس أطيّب الأثر على مرّ الزّمن. فحازم بهذه المميزات يكون قد تفوَّق على السَّجلماسي في مفهوم التَّخييل حيث جعله أعمّ وأشمل وذا فائدة إنسانية، حيث امتدّ في نقده فتفوق عليه، وسبب تجاوزه هو عكوف صاحب المنزع على العبارة، فقام بإحصائها ولم يعطي اهتماماً كبيراً إلى أبعادها النفسية لدى المتلقي خاصّة. أظهر حازم تميزًا واضحًا في تنظيمه لمادّة كتابه على أساس منهجي دقيق حيث أظهر أصالته في تحليله الدقيق والعميق لأسس النظرية الإنشائية والإبداعية والنقدية، فقد حاول تأسيس ما اسماه بقوانين الصناعة الشّعرية، في طرح نظري في معظمه وإن لم يخل الكتاب من بعض النواحي التطبيقية. ولطبيعة الموضوع المعقد الذي عالجه في كتابه، وبسبب تأثره بالمصطلح الفلسفي يجد القارئ أحيانًا لغة الكتاب شديدة التعقيد والتكثيف والتركيز، وأما السجلماسي على الرغم من أنّه اتخذ منهجاً سليماً وبأسلوب مميز في ترتيب مادّة كتابه(المنزع) وهو أسلوب فريد من نوعه، وشمولية قيمة، وروح حيوية متينة، ومع هذا الروح الشهمة والنفس النبيلة إلاّ أّنه يبقي أقلّ درجة في المنهج والأسلوب أمام منهاج حازم. إنّ حازماً هو أحد أكثر النقاد وعيًا بقوانين الإبداع الشّعريّ، اتّخذ في دراسته منهجاً شمولياً ونظرة كلّية فامتد نقده إلى العناصر كلّها، وكان هدفه البحث في القوانين العامّة للشّعرية في الشّعر العربيّ، وبيان أصولها الفلسفية والنفسية، وقد أضاف إلى النقاد الذين سبقوه إضافات جديرة بالعناية ولا سيما في مجال الأسلوب وبناء النصّ، فخصص قسماً للألفاظ (لم يصلنا)، وقسماً للمعاني، وقسماً للأسلوب وقسما للنظم والوزن والإيقاع. ولما كان مقصد حازم شاملاً والعلم الَذي سعى إلى إقامته كلياً، فقد قسمت أبواب دراسته جوانب الشّعر كلّها، ومكونات القصيدة برمّتها. ولم يتم له ذلك إلى حين جعل حركة التخييل ذات أبعاد متعدّدة تمس عناصر الشّعر الأساسيّة انطلاقاً من اللفظ والمعنى وانتهاء بالوزن دون إغفال الأسلوب، وأما السجلماسي على الرغم من تمتعه بشخصية ذات عقلية فلسفية ومنطقية واضحة إلا أنّه اعتمد في دراسته على المنهج الاقصائي والنظرة الجزئية للنصوص، فقد ظهر في منزعه النزعة المنطقية الموغلة في التفريع والاستقصاء الجامع، والتحديد المانع، فلقد استفاد من التجربة الفلسفية أيما استفادة غير أنّه ظلّ دون شأن المنهاج لحازم حيث تميّز بالرؤيا التكاملية التي تظهر عنده في إحاطته بمختلف جوانب النص الإبداعي، وإلمامه بمختلف العناصر الفنية في النص وإمكانية تكوينها وتجسيمها. إنّ كتابي الناقدين المنهاج والمنزع لم يكونا مجرد إعادة لكتابات السابقين؛ بل استطاعا أن يعيدا بناء النقد الأدبي على أركان سليمة، ومع ذلك تفرد كل واحد منهما بمزايا ميزته عن الآخر في تناوله لفنّ التخييل.