ملخص
من البديهي أن تفضي الثورات الشعبية على النظم الأوتوقراطية إلى مرحلة تستدعي جهود حثيثة لبناء الدولة، وليبيا ليست بإستثناء، فالشواهد على ذلك كثيرة. إلا أن الحالة الليبية تستوجب قدر أكبر من الاهتمام والتركيز، ولعل أبرز مسوغات ذلك أن ليبيا شهدت عقود من العبثية والظلم والاستبداد المطلق (1969-2011) حيث تم خلالها توظيف كافة خيراتها وإمكاناتها للتمترس في الحكم، وتكريس ذلك الواقع على حساب التنمية والحياة الكريمة للمواطنين. كما أن الحرب للقضاء على هذه الحقبة (فبراير 2011 - أكتوبر 2011)، وبعض النظر عن مبرراتها وتصنيفاتها والأطراف المنخرطة فيها، كانت باهظة الكلفة، وذلك من حيث الخسائر في الأرواح والممتلكات، ناهيك عن الجرحى والمفقودين والانتهاكات والمروق والدمار، مع انتشار الأسلحة وإطلاق سراح السجناء؛ والأخطر من ذلك؛ تكلس وتفشي ثقافة ناجمة عن مناخ وسلوك استبدادي ممنهج، لعل من تداعياتها إنحطاط في منظومة القيم تتمثل في الأنانية والشخصنة والانتهازية والجشع والمصالح الضيقة والفساد، وغيرها من رواسب ممارسات الأنظمة الشمولية، أي "ثقافة القبح" التي تتشكل تحديداً من "ثالوث إهدار المال العام والشخصنة والإقصاء". اللافت للنظر أيضا أن عملية الانتقال في ليبيا ليست كما هو الحال عليه في عديد الدول الأخرى التي تمر بظروف مشابهة؛ حيث يستوجب العمل على تجاوز ثلاث مراحل ألا وهي: من اللاّدولة إلى الثورة ثم إلى الدولة. كما أنه من الجدير بالملاحظة في هذا الصدد بأن التجارب، وخاصة في إطارنا الإقليمي، تشير إلى أنه كلما تكرس الاستبداد، من حيث التمترس والحدة والإنتشار، كلما استعصت سبل القضاء عليه وعلى تكلساته. ولتأكيد هذه الفرضية يمكن إجراء مقارنة لما يجري من إنفلات واحتراب في سوريا والعراق واليمن وليبيا، مع الاستقرار النسبي للأوضاع في كل من مصر وتونس. هذه هي الحقيقة التي تفند أي تعميم في المقارنات الخاطئة بين دول ما تسمى "ثورات الربيع العربي" تحديداً، والتي يتم تناولها دون مراعاة لهذه الرؤية. تسعى هذه المساهمة إلى تسليط الأضواء على عنصر بالغ الأهمية وإلإلحاحية، وخاصة في هذه المرحلة التاريخية الحساسة التي تستدعي مزيد الجهود للسعي من أجل صناعة وبناء السلم/الدولة، إلا وهو: “العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية". إن هذا العنصر/المرتكز لازال يشكل عائق كبير في المسارات التفاوضية، وجهود التحول الديمقراطي وبناء الدولة، وذلك بعد انقضاء ما يناهز العقد من العبث واللأإستقرار، أو بالأحرى الإنقياد نحو تصنيفات "الدولة الفاشلة". من هذا المنطلق، نحاول في هذه الورقة البحثية إستجلاء السجال الحاصل في ليبيا فيما يخص الجدال حول إشكالية حسم الأولويات بين العدالة والمصالحة، وكيفية التوصل إلى رؤية تنجلي فيها هذه الضبابية المعيقة للاستقرار والتنمية، وذلك بغية المساهمة في مساعي تجاوز المأزق الراهن.