العقل إدارة عامة

تاريخ النشر

2022-1

نوع المقالة

مقال في مجلة علمية

عنوان المجلة

https://draqeel.com/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%83%d8%aa%d8%a8%d8%a9

المؤلفـ(ون)

عقيل حسين عقيل مسعود

ملخص

العقلُ إدارة عامّة يدير الحواس كما يدير المدركات، ويدير المجرّد والمحسوس والمشاهد والملاحظ، ويتدبَّر ويتذكَّر ويفكّر، ومع أنَّ العقل مركز الإدارة فإنَّه لا يتولى تنفيذ كلّ شيء، بل يترك التنفيذ لكلٍّ وفق اختصاصه مما يجعل الكلّ مراكز لا تدار إلّا به؛ ولهذا بالنسبة إلى مشي القدمين، فإنْ لم يُعطِ العقل حريّة الحركة للقدمين فإنَّ الخطوات لن تتبادل بمرونة، وإن حاول أحدُ مبادلتها فسيكون صاحبهما من المتعثرين؛ ولذا لن تخطو القدمان بصاحبهما خطوات ثابتة إلَّا بقرار واضح من العقل لأداء واجبات محدّدة. إذن: الخطى عندما تطوي المسافات بقرارٍ من الإدارة العامّة (العقل) تصبح علاقة التطابق تامّة بين خطى القدمين، ورؤية العقل. أمّا إذا أُجبرت القدمان من الغير على قطع المسافات، فلا شك أنّها ستتعثَّر عندما يحاول الآخر أن يجرُّها أو يجبرها بما لا يصدره لها العقل من قرارات واضحة ومحددة وعن إرادة؛ لذا عندما يكون قرار الإدارة العليا وفقًا لِما يجب أرادة؛ تصبح الخطوات متهيّئة ومستعدة ومتأهِّبة لقطع المسافات دون تردد، ولكنّ المدير العام لا يدير شيئًا باستقلال عن غيره إلّا في حدود الوظيفة الخاصّة به؛ إذ خصّص العين للنظر واللسان للذوق والأنف للشم والأذن للسمع، وجعل كل منها في حالة تهيّؤ لإرشاد غيره إلى ما يجب عند كلّ أمر يصدر له، كما يرشد البصر القدمين إلى السير في الاتجاه الذي يشاء العقل بلوغه، وعندما لا يكون الخوف مرافقًا لقطع المسافات تزداد القدمان ثباتًا تجاه الهدف الذي يستوجب الإنجاز، ومعها العينين تحمْل مسؤوليَّاتها تجاه ما يجب أن تقدِّمه للقدمين من إرشاد، مما يجعل الإنسان متمكنًا من الوقوف على أدق الأشياء بإرادة وظهورها أمام المركز برؤية واضحة، ولهذا عندما تُجبر العينان جبرًا فلا يكون للرؤية وضوح، ولا تُكشف الحقيقة أمام الإدارة العليا ما يجعل المدير العام غير قادرٍ على اتخاذ قرارات مُرضية وواضحة للأنا والآخر والوسطي وإن حاول واجتهد فيترتّب على ذلك فوضى، التي إن لم يُحسم الأمر فيها قد يشتد الصّراع ليكون فيه كلّ طرفٍ متطرِّفٍ. ومع أنَّ العقل هو المسؤول الأوّل الذي يدير الإدارة العليا فإنَّ الإدارة العليا لا تدار به وحده فهناك القلب، وهناك العاطفة، ولكلٍّ منهما غاياته التي تمتدّ بين قوّة وضعف، فإن تطابقت رؤى المدير العام (المسؤول الأوّل) مع المساعد له (القلب) كانت القرارات الصادرة ضميريّة، تُطمئن الأنا والآخر والوسطي، وإن غَلُبت رؤى العاطفة المساعد الثّاني للمدير العام مالت القرارات إلى ما يُشبع الغرائز على حساب ما يُشبع النفس التي لا تطمئن إلّا بقرارات الضمير العادلة التي لا تغفل عمَّا يرغبه القلب وما ترغبه العاطفة ولكلٍّ حاجاته التي يجب أن تُشبع باعتدال دون أن تكون على حِساب طرفٍ من الأطراف؛ ولذا عندما تكون قرارات العقل مع الضمير حاسمة فإنَّ العينين لا تقومان بتزوير الحقائق البصريّة وإن رغبت العاطفة. إذن: تتعدد مراكز الإدارة في الإنسان من المدير العام ومُسَاعِديه إلى الإدارات المركزيّة الأخرى وفقًا للصلاحيَّات والاختصاصات بها يُدار السمع بمتخصصين كما يُدار البصر بمتخصصين، والشم واللمس والذوق بمتخصصين، وكما تدار الإدارات التي تليها في الأهمية بمتخصصين بالنطق، والمشي، والرمش، وهكذا تتعدد وكلّها تقرّر ما تشاء، ولكنّ التنفيذ الموضوعي عندما يتعلق الأمر بالمراكز الأخرى لا يتمّ إلا بعلم الإدارة العامّة، ولهذا كلّما وجب ظهور المركز العام أو وجوده وجب ظهور المراكز الخاصّة، مراكز السمع والشم واللمس والذوق والبصر وغيرها، ومن يحاول أن يجعل الأمر كلّ الأمر في إدارة عامّة يجعل الحواسّ غير قادرة على أداء وظائفها التي خُلقت من أجلها ويدفع بعضها إلى التطرُّف الذي به تشوَّه الحقائق وتزوَّر فلا تُقدَّم للمسؤول الأوّل (هي كما هي) ما يجعله في كثيرٍ من الأحيان يتخذ قرارات غير صائبة وقد يتمسَّك بها ويجبر النَّاس عليها، وسواء أكان يدري أم لا يدري يجد نفسه قد دفع بعض الذين تمّ إجبارهم بغير حقّ إلى التطرُّف فكرا وتنفيذا؛ فيترتّب كرههم بغير حقّ ومقاومته بغير حقّ بأسباب المعلومات الخاطئة والمزوَّرة التي قُدِّمت للمسؤول الأوّل وترتّب عليها ما ترتّب من إجراءات غير موضوعية. إذن: بوجود الإدارة المركز تظهر مراكز متعدّدة، ولكلّ مركز أهمية تستوجب الاعتراف والتقدير والاعتبار وفقًا للتخصص والاختصاص والخصوصية، وهكذا المراكز تتعدد بما يُمكِّن المواطنين من ممارسة الحقوق وأداء الواجبات وحمْل المسؤوليَّات، وإن لم يتمّ الاعتراف بذلك فسيكون التطرُّف من الأساليب المنتشرة بين من يريد نيل الاعتراف ومن لا يريد الاعتراف به. فالمركز الذي يريد أن يكون على حساب طمس مراكز الآخرين سيتعرَّض هو الآخر للطمس وبكلّ الأساليب، ومن يريد من المراكز الأخرى أن تُقدِّم له التنازلات تلو التنازلات فلن يكون قادرًا على إدارة ما يُراد له أن يديره بنجاح مما يجعل الفشل مرافقًا له أينما حلّ وشتائم المواطنين تلاحقه إلى أن يرحلّ بإرادة أو يُرَّحلّ بالقوّة. ولأن الحقوق متماثلة، والواجبات متباينة، والمسؤوليّات أعباء ثقيلة، إذن: لا يمكن لهذه المعطيات أن تكون مقتصرة على مركزٍ واحدٍ، ولكن ينبغي أن تدور حوله بقوّة جذبه لها إرادة وإدارة متماسكة. وكما أنَّ الإنسان خُلق مركزًا في أحسن تقويم؛ فلا يتطابق مع أيّ مركز آخر في قدراته واستعداداته وخصوصيّاته الفرديّة والجماعيّة والمجتمعيّة، فهو على الأرض أين ما وجد أو وقف أو جلس هو المركز، وهكذا الآخرون كلّ منهم على الأرض هو المركز من خلال النقطة التي يكون عليها وإن تحرك إلى الأمام أو إلى الخلف أو إلى أحد الجانبين؛ فمركزه يتغير بتغيُّر مكان وجوده على الأرض أينما تحرَّك على أديمها، وبما أنَّ الأمر كذلك خَلقًا إذن: لماذا لا يكون الإنسان مركزًا أين ما وُجد؟ ولذا لا ينبغي أن يكون في الوطن الواحد مواطني العاصمة هم المركز والآخرون أطراف على الحدود مع تباين المسافات قربًا وبعدًا، بل يجب أن يكون المواطن على تراب الوطن مركزًا أينما وُجد من الحدود إلى الحدود من خلال المساواة في ممارسة الحقوق وأداء الواجبات وحمل المسؤوليَّات، التي بها تتوافر مشبعات حاجاتهم المتطوِّرة في أي مكان هم فيه مركز دون تمييز. وعليه: فمن لا يكون من المواطنين مركزًا سيتطرف بما يدعوه إلى الرفض والتمرد، ومصطلح (التطرُّف) لشد ما نسمعه متداولًا على الألسنة بالمعنى الذي أُريد له أنّ يفهم به؛ ذلك أنَّ الذين أرادوا المصطلح بهذا المعنى يجعلون من أنفسهم نقطة الارتكاز التي يقوم عليها ميزان الحقّ والعدل بكفتيه، وفي رؤيتهم أنّهم يحققون التوازن الفكري ويميِّزون الفضيلة عن الرذيلة وفق مقياس الارتكاز الذي اعتمدوه؛ ولهذا فهم يرون أنّ كلّ من ابتعد عن هذا المركز ووقف في طرف بعيد عنه يكون متطرّفا، وهذه النظرة تنطلق من الأنا التي تعبِّر عن بعض مكنونات النفس وتفكير العقل في النظرة إلى الآخر والتقليل من شأنه، ومن ينطلق من هذه النظرة فقد افترض وقوف الآخر على طرف بعيد عن المركز الوسط حسب اعتقاده. هذه الرؤية تعد صرخة في وادٍ ما لم تحاور الآخر من منطلق تعدد المراكز، فتتباعد في هذه الرؤية مفاهيم المصطلح مما يؤدِّي إلى توطيد التباعد في المواقف، ويصبح الحوار نوعًا من الهذيان عندما تُحوَّل القضية إلى تعريف التطرّف حسب الموقع الذي تشغله الأنا في القرب منها أو البعد عنها. وعليه: فالبحث في تعدد المراكز ضمن انساق متنوّعة بحسب الخط العمودي الذي يطرح تمظهرات يكون على أساسها انبعاث طروحات مختلفة، تعكس في الوقت ذاته المركز الواحد الذي يحاول أن يكون كما يرى نفسه مركزًا وحيدًا دون أن يحاول النظر إلى ما حوله، وهذا يتأتّى بطبيعة الحال من الأساس الفكري الذي بُني عليه الذي يحاول أن يلغي الآخر، ويضعه في مكان ليس له مكانة، وهنا تكون الأنا مكتسية بلون الانفصام الفكري الذي يلغي المسافات ويحجم الرّؤيا، مما يؤدِّي إلى انفتاق انساق جديدة يكون عليها الآخر الذي غُيّب ولم تصبح له أي كينونة يستطيع من خلالها أن يكون طرفًا في معالجة ما يحدث وعلى كلِّ الأصعدة، فيحاول أن يلملم نفسه وأحواله وفق ما يراه، ويعيد إنتاجه ضمن النظرة التي يرى من خلالها الحلّ. إنَّ من يرى وجوب التمركز على نقطة واحدة يكمن فيها الحلّ عائد إلى أمرين هما: _ السياق الفكري الذي يرى من خلاله أنَّ المركز الواحد هو الحلّ الوحيد الذي ليس له بديل مهما كانت البدائل، وهذا ما يمكن أن يسمّى بالتقوقع الفكري الذي يرى كلٌ من المركز والتطرّف أنّه الوحيد الذي يقول الحقيقة، وهذا يفضي إلى عدم تحديث الفكر ومعاودة الحوار المستند للعقل والمنطق والتجارب؛ فالتقوقع الفكري هو عدم القدرة على التغيُّر والتفهُّم والاستيعاب والتحليل والحلّ للمشاكل العالقة من معضلات ومستجدات تطوُّريَّة حاصلة، وفي مختلف مجالات الحياة الخاصّة والعامّة أيّا كانت، ويظهر المتقوقعون عاجزين أمام المتغيّرات الجديدة ومستجداتها مما يؤدِّي إلى تراجعهم، ومن ثم عدم قابليتهم وقدرتهم على التحليل والتطوّر. ومن هنا فالتصلُّب في الفكر والتعامل والممارسة المختلفة بغير حقّ يؤدِّي إلى التقوقع الذي نهايته التراجع والوقوع في الفخّ بسبب عدم التفهُّم والإدراك للمتغيرات الحاصلة في المحيط العالمي، كما أنّ التصلُّب والخشونة في الرَّأي والممارسة تخفي عن صاحبها الخفايا، فالخشونة والتصلُّب بغير حقٍّ يؤدِّيان إلى النفور من أصحابها وبالتالي يتحولان إلى إعاقة في حركة التغيُّر والتطوُّر لديهم؛ فالخشونة والتصلُّب الفكري لا يكونان إلَّا ضدّ الآخر الذي يتعرَّض في دائرة الممكن إلى الرفض والقبول والتغييب والإقصاء، وهنا تكمن علل المشكلة وتزداد الفجوة امتدادًا عن الآخر. _ أمَّا دلالات المرونة في الفكر والممارسة على عكس ما تدلّ عليه الخشونة والتصلُّب؛ فبقدر ما يكون الأنا مرنًا يكون أكثر حكمة تجاه الآخر؛ فالمرونة تشعر الآخر بالطمأنينة كما أنَّها دليل لتفهُّم ظروفه التي بتفهُّمها يتمّ استقطابه واستدعاؤه إلى ما يجب أن يكون من أجل الجميع، وكلّما ازدادت الليونة والتفهُّم ازداد النفوذ؛ لأنّ التفهّم يراعي مصالح الجميع وحتى شطحاتهم وتطلعاتهم التي لا تشكل ضررًا على أحدٍ، فالاعتراف بالآخر والتشارك معه على البيِّنة هي القوّة الحقيقية في الصعود واستمرار البناء السليم والانسجام المتواصل في سبيل الإنجاز وصناعة المستقبل الذي فيه الأمل. وعندما يرى الأنا نفسه أنَّه الأكبر أو الأقوى فليعلم أنّه مهما قوي أمام توحُّد قوّة الجميع لن يظلّ إلّا الأضعف أمام الجميع؛ ولذا فالأفضل للجميع ألّا يكون من جنسهم أحد كبير ومتكبِّر عليهم، والأفضل لمن يرى نفسه أنَّه الأكبر على قومه أو شعبه أن يعيد نظرته لنفسه ويقيِّمَ حاله ثم يقوِّمها بقوّة النّاس التي وحدها تستطيع أن تجعله الأكبر مكانة بينهم متى ما اعترف بأنّهم سادة وقدَّرهم بالفضائل والقيم التي قدّروه بها وجعلوا له مكانة بينهم. أمَّا إذا تحقّقت هيمنة الأنا على الغير، فتكون هيمنته هي المضرَّة الرّئيسة في الحيلولة دون أن يفكِّر الأنا في صحة هذه الفكرة أو صلاحها أو مناسبتها أو خطئها أو فسادها، كما أنّ الفكرة أيضا تسهم إسهامًا كبيرًا في الحيلولة دون تفكير المرء في صلاح أفكار أخرى، وهيمنة فكرة من الأفكار على عقل المرء تدل على وجود قدر من انغلاقه عن العالم الفكري الذي حوله؛ فالهيمنة الفكريّة ستار فكري يكتنف صاحب الفكرة فيحجبه عن العالم الفكري، هذه الهيمنة التي تشيع لدى الكثير من البشر في جميع أنحاء العالم أحد المكامن الرّئيسة لتمزُّق البشرية، وعلى النطاق الأصغر تمزُّق المجتمعات إلى فئات مختلفة في مجالات السياسة والاقتصاد والمعتقدات والقيم الاجتماعية والفضائل الإنسانيّة؛ ممّا يسهم في جعل عمليّة تحقيق التماسك الاجتماعي والشعبي مهمة أشق. ومن تجلّيات انحسار الهيمنة ومظاهر الانفتاح على الفكر الآخر أن يترك المرء في فكره هامشًا لاحتمال خطئه الفكري، وأن يدرك أن الفكرة لا تتضمّن بالضرورة الحقيقة كلّها؛ لأنّ الفكرة مكوَّنة من عنصرين: ذاتي وعنصر موضوعي ذوي نسبتين مختلفتين في بنية الفكرة، بينما تشتمل الحقيقة على قدر أكبر من العنصر الموضوعي، وأن يدرك المرء أنَّه لا حكر لأحد على معرفة الحقيقة. وبانحسار الهيمنة الفكريَّة وبالانفتاح الفكري تُمَدُّ جسور الاتصال بين الأنا والآخر، وتتعزّز ظاهرتي التغذية الفكرية والتأثير الفكري المتبادلتين، وبهذا الانحسار، وهذا الانفتاح يصبح الموقف الفكري مماثلًا أو عاكسًا لحقيقة تكوين الفكر من ذات وموضوع، وبالتالي يتمّ التقارب الفكري الذي يسهم في التماسك الاجتماعي علائقيًّا، وهو التماسك الذي يحتاجه الأنا والآخر على حدٍّ سواء. ولذا فإنَّ إلغاء الآخر تنفرج له أسارير المتعنِّتين الذين لا يتجاوز تفكيرهم خطوات أقدامهم، فيحاولون الاقتناع بفكرة إلغاء الآخر التي تساورهم، فلا يجدونَ بديلًا عنها، ويُنصِّبون فكرهم وأنفسهم ضمن المكانة التي لا يمكن إلا الركون إليها ولا حلّ إلّا بها، والتساؤلات التي يمكن أن تطرح هنا: _ ألا يكون هناك بديل عمَّا يراه الأنا؟ _ ألا يكون لدى الآخر أحد المفاتيح التي يمكن من خلالها الحلّ؟ _ ألا يكون إلغاء الآخر علَّة مؤدّية إلى تعاظم مكانته وعلوّ شأنها؟ إنّ تمسُّك الأنا بأنّه المركز وغيره هامش، وتمسُّك الهامش بأنّه صاحب الحقّ في أن يكون مركزًا على حساب ذلك الأنا الذي يجب أن يُهمَّش، إنَّ هذه التشبّثات لن تؤدّي إلى حلّ إلّا إذا اعترفت بأن المركز حقّ للجميع مما يستوجب الالتقاء والتفاهم على إدارته بموضوعيَّة دون أن توزَّع الأدوار بما يجعل البعض ضحيَّة ولو كان من الغافلين. ومن يرى أنَّ الحلّ لا يكون إلّا في التطرّف ذاته، فقد يكون التطرُّف شاهدًا هو الآخر على ذاته بأنّه ليس الحلّ، فكيف إذن لا يتمّ الحوار مع الفكرة قبل أن يتمّ عرضها عُملة مزوَّرة في السوق؛ فتؤدّي إلى تأزّمات مالية وتُطيح بالاقتصاد بين بائعٍ ومشتر. ولذا فلا داعي للتجاهل فهو المؤدّي إلى إلغاء الآخرين وتحقيرهم وتغييبهم عن ممارسة الحقوق التي بها تتحقّق المنافع المشتركة دون أن يتضرر الغير، ومن لم يجد آذان مصغيَّة تسمعه وتُسهم في توفير ما يُشبع حاجاته المتطوِّرة، ليس له بدٌّ إلّا أنّ يتطرَّف بعيدا ويتخندق لمقاتلة من كان سببًا في تهميشه وإقصائه وتحقيره وتغييبه وعدم الالتفات إليه ولو بطرفة عين. وهنا يصبح المركز هو السّبب بإسقاط كلّ الحلّول التي من شأنها أن تلغي التطرّف وتدخله ضمن خريطة جديدة يكون على أساسها الحلّ بتعدد المراكز التي فيها يُقدّر الإنسان ولا يهان. إنَّ تشبّث الأنا بما هو عليه وتشبّث الآخر بما هو عليه، يجعل كلًا منهما في حالة تطرُّف؛ إذ لا لين ولا مرونة ولا تقدير ولا اعتراف بما يجب، وكذلك يصبح التساوي في التشبّث بالمرتكز الذي يؤجّج نار التطرُّف في كل صغيرة وكبيرة. ومن هنا فالتشبّث لا يؤدِّي إلى الاندماج والتوافق والانسجام والتعاون والاستيعاب ولا حتى التكيُّف، بل يؤدِّي إلى ما يظهر التطرُّف في الفكرة والقول والفعل والسّلوك مما يجعل المفاجئات الدموية مفجعة ومصارف الدّم تطالب بالمزيد. فالتشبُّث بما لا يجب لا بدَّ أن يواجه بالرفض، أمّا التشبّث بما يجب حتى وإنْ واجهه الرفض من البعض الذي لا يُقدِّر الأنا ولا الآخر؛ فلا يمكن أن يكون للرافضين فيه حُجَّة أو مؤيِّدين موضوعيين؛ ولذلك يبطل؛ ذلك أن السياق العام للنسق الإنساني يشير إلى أن الفضائل والقيم هي المرضية لتوافقات النّاس بإرادة؛ ومع ذلك فلكلّ قاعدة شواذ. وإذا ارتأت الأنا أنّه لا حلّ للمشكلة مع الآخر إلّا وفقًا لرؤيتها أو وفقًا لثقافتها أو لمعتقدها؛ فهي لا تملك الاتباع، ولا مفاتيح الحلّ للمشكل الإنساني، وفي هذه الحالة توصف بأنّها أنا متعصِّبة لوجهات نظرها وأفكارها ومنحازة لرغباتها؛ ولذا لا تتمكن من تكوين علائق مع الآخر، فعلاقتها تكون ضمن المركز الذي تتمركز عليه، فهي تعيش حالة من الانكفاء والجفاء فلا تتمكن من الوصول إلى الآخر أو حتى التقرُّب منه على سبيل التعرف على أفكاره وآلامه وأحلّامه، أو حتى في طريقة تفكيره التي في كثير من الأحيان يكون على أساسها الوصول إليه ومحاولة الاندماج معه، وصهر كلّ الخلافات والمشاكل والعوائق في بوتقة إظهار الحقيقة: (نحن سويًّا) و (نحن معًا). فعندما تنظر الأنا لنفسها وكأنّها العالم بأسره، تصبح واهمة بما تمتلئ به من ظنون بأنّه لا يوجد شيء خارجها؛ فهي كما تزعم الأفضل وعلى كلّ المستويات، تعتقد فيما تسلك ولا تعتقد في سلوك الآخرين؛ ولهذا لن تكون قادرة على القيادة الجامعة، بل تصبح مقدرتها في اتجاه ما يفرّق، مما يجعل للتطرُّف مناخًا مناسبًا لإثارة الزوابع، وهنا يكون الصدام بين من يتمركز على أناته (شخصانيًّا) ومن قرّر مواجهته بالمطلق؛ ولذلك تنعدم معطيات الالتقاء الذي يمكن أن يكون من خلاله الوصول إلى بداية عهد جديد في إذابة التشبّث، وجعل الأمور تسير وفق نطاق يلملم ما يحصل ويدخله في دائرة التوافقات التي يكون من خلالها تقريب وجهات النظر وتغيير الاتجاهات نحو ما يجب؛ فالمركز والتطرّف متقابلان في كلّ شيء إلى أن يجلسا حول طاولة واحدة (نحن معًا) و(نحن سويًّا) وحينها يعرفان أنّهما كانا على وهم أنّهما المتقابلان في الوقت الذي هما فيه ليس كذلك؛ ولهذا الجلوس حول طاولة الحقّ المستديرة تجعل كلّ واحدٍ من الجالسين مركزا مساويا للآخر، وحينها تنجلي الحقيقة إن كانت النوايا مستهدفة تحقيق آمال مشتركة من أجل صناعة المستقبل الأفضل والأجود والأحسن والأهم والأعظم. إنَّ تشبّث الإنسان بكلّ ما يتعلق به من أمر حقّ لا يستوجب الحرمان، والأمر هنا: كلّ ما يتعلق بالإنسان من سياسة داخلية وخارجية وحربٍ وسلمٍ وملكية وتعليم وصحة وكلّ ما من شأنه أن يُسهم أو يؤدِّي إلى إشباع حاجاته دون أن يكون على حساب إشباع حاجات آخرين؛ ولهذا من الوجوب التشبّث بممارسة الحقوق وأداء الواجبات وحمْل المسؤوليات، بل من غير اللائق ألّا يتشبث الإنسان بكلّ ما يتعلق بأمره الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وعلى كلّ المستويات الفردية والجماعية والمجتمعية، إنّه الأمر الطبيعي ومن خالفه خالف قوانين الطبيعة التي تأسست على الفضائل الخيِّرة والقيم الحميدة التي جعلت الإنسان هو المركز. إنَّ تشبّث الأنا برؤاها في مقابل الآخر برؤاه لا يؤدِّي إلى حلّ، بل في بعض الأحيان يؤدِّي إلى التطرُّف مع استخدام أشدّ الوسائل عنفًا ودمويَّةً، وبالتطرّف قد ينتزع الآخر اعترافًا يتمكَّن به من الجلوس على طاولة التفاوض والمراجعة التي تجعل كلّ طرفٍ خيرَ مستمعٍ لآخر جالسًا حول طاولة التفاوض المستديرة على قاعدة: (الحقّ للجميع ودون استثناء)، وتجعله أيضًا خير متحدثٍ عن أمره (سببًا وعلةً)؛ ولذ لو لم يكن الحلّ كامنًا في التطرّف ما تطرّف من تطرّف فعلًا وسلوكًا؛ ولهذا عندما يكون عدم الاعتراف بحقوق الآخرين وواجباتهم ومسؤوليَّاتهم هو السائد، فلا يكون لهم حلٌّ إلّا التطرّف الدموي الذي لا يجب الدعوة إليه بأيّ علة أو سبب، بل الانفتاح على مجموعة من الاختيارات والبدائل التي تهيئ الإنسان إلى الاختيار بإرادة، وحلّ هذا الأمر بين الأنا والآخر يمكِّن كلا منهما من طي الهوة بمسببات التخلي عندما كانا يتشبّثان بأركان الحلّ المطلق، وبما أنّ الحلّ مؤسّس على الزوجية (الأنا والآخر)؛ فلا يمكن أن تستمد الحياة قوّتها إذا أُلغي الآخر، وهذا الأمر يخالف الأمر الزوجي الذي بُنيت الحياة عليه وغرست فيه نبتة الأمل. ولأنّ الأنا قوّة والآخر كذلك فإنَّ مقارنة كلا منهما بالآخر تجعلهما في تساوي القوّة، ولو جلس الأنا مع الآخر على قاعدة: (نحن معًا) و (نحن سويًّا) مع فائق الاعتراف والتقدير والاحترام لكان الحلّ بينهما مؤسّسًا على ما يجب، وقاطعوا الفرقة التي لا تكون إلّا بأسباب تمسُّك كل منهما برؤاه الخاصة وتشبّثه بها. ولذا فانَّ التشبّث بالحلّ هو الحلّ، فالإنسان القوّة يتوحّد مع الآخر دون أن يجعله خصمًا أو يدفعه إلى أفعال التطرّف؛ ممّا يؤدِّي إلى الوهن والضعف كلّما تواجها. ولهذا يجب أن يكون المركز للجميع إن أردنا أن نَقْبُرَ التطرُّف إلى الأبد، وإلّا ستظهر قاعدة: (إن عدتم عدنا)، وحتى لا يكون التشبّث قاعدة في غير محلّه؛ فعلى الأنا والآخر أن يكونا على قاعدة: (المرونة الاستيعابيَّة) التي بها يُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه، وبها يكون هامش القول الحقّ، والفعل الحقّ أكثر اتساعا، وبها تجد مشاعر الاعتراف والتقدير حيِّزا لها، وتجد المكانة مكانتها، ويُعتمد المنطق الحُجَّة ويجد كلُّ فسحته في ممارسة الأمر بإرادة حرة. إنّ رفض الآخر أو رفض آرائه قد يدفعه إلى التطرّف، وكلّما اشتد الرفض اشتدَّ التطرّف، وفي هذه الحالة يصبح الأمر كمن يرمي حُزمًا من الليف على النّار وهي مشتعلة، فينبغي للحلّ أن يكون على معطيات الوجوب وأهميَّة اتباعه ومعطيات الوجوب ومبرراته أو الإحجام عنه؛ ذلك أنّ الحلّ يؤسّس على حقائق؛ فلا يكون وقتيًّا لفترة محدودة، بل لا بدَّ أن يكون للزمن القادم برمّته؛ فالحلّ الوقتي ليس هو الحلّ، بل هو في حقيقة الأمر يمثّل عثرة جديدة تجتمع حولها أفكار جديدة تؤجّج الخلافات وتمنحها وقتا يساعدها كي تثور مرة أخرى، وهذا الأمر يؤجّج كلّ ما يكون سببا في عدم الالتقاء بين المركز والتطرّف (بين الأنا والآخر). إنَّ اتساع المسافة بين المركز والتطرّف في البداية يستوجب تنازلات وطنيَّة وأخلاقيَّة كي يحدث التقارب الذي يكون فيه: ـ فهم كلّ طرفٍ حقيقة الطرف الآخر. ـ محاولة الكشف عن نقاط الاختلاف والاتفاق. ـ طيّ الهوة بين الطرفين يبعد شبح الفشل والخوف والتوجس. ـ رسم معالم المستقبل الواجب صنعه بعد نهاية كلّ العلل والمسببات الكامنة وراء تأزُّمات كلا الطرفين. تقديم التنازلات عن تلك الاشتراطات التي نتجت أيام المواجهة الباردة والمواجهة الساخنة بين المركز والتطرّف تكمن فيها الحقيقة وأساليبها وكيفيَّة إظهارها من أجل التوصل إلى حلٍّ مؤسّس على كفتي العدل الذي تزول به المظالم ويُكَفُّ به تقديم الضحايا قربانًا عن غير طاعة. وأيُّ تنازلات تُقدّم اليوم إنْ لم تكن مبنيّة على الحقائق لا تكون غدًا سببًا من أسباب التقارب، بل إنَّ الذين يتنازلون اليوم بغير حقٍّ سيتخاصمون غدا بأسباب التنازلات، والذين يلجأون إلى الحقيقة معلومة بمعلومة وحُجَّة بحجَّة أولئك هم الذين يشخِّصون الحالة، ويعرفون مكامن العلل التي من خلالها يتوصَّلون إلى درجة التوافق دون إعطاء أي تنازلات. إنَّ الدخول في تنازلات ايجابيَّة يؤدِّي إلى حلّ مرضٍ، أمّا تقديم التنازلات السلبيَّة فلا يؤدِّي إلى حلٍّ مرضٍ، حتى وإن توهَّم أحد ذلك فلا يكون الحلّ نهائيًّا؛ ممّا يجعل المشكلة تظهرُ وتعود إلى ما كانت عليه؛ فبذور الفتنة المستقبليَّة تكمن في تقديم التنازلات السلبيَّة، وليس لها بدٌّ من حلٍّ إلا بإحقاق الحقِّ وفق معطياته ومبرراته ومكانه وزمانه وخصوصيّاته، وإلّا ستعود الفتنة تشتعل بحطب نار التطرّف. ولأنّه لا اختلاف بين من يقول: إنّ الحلَّ يتمركز في نقطة محدّدة ومن يرى أنّه لا حلَّ إلا بالتطرّف، فالحلّ أن تُفتح آفاق التقبُّل مبدأ بين الأنا والآخر دون طلب تقديم تنازلات مشروطة. ولأنَّ التقبُّل حقُّ فلا ينبغي له أن يصادر، ولأنَّه حقُّ للطرفين فإن قُدِّم لهما تيسيرًا فهو الذي يطوي المسافات بينهما دون تقديم تنازلات مشروطة، وإذا لم تُفتح آفاق التقبُّل ستظلّ الأنا مستقلة عن الآخر مثلما الآخر مستقل عنها إلى أن يعتمدا مبدأ التقبّل، حينها يصبح التواضع مُمكِّن من الالتقاء والحوار والنقاش ويتم التوصُّل إلى الحلّ الذي لا يكون إلّا من أجلهما، ومن هنا: يجب تعدد المراكز طالما هناك من يُفكِّر في أن يحتكر المركز ويُقصي الآخرين عنه، ومع ذلك لا ينبغي الإغفال عن أهمية تقدير المركز العام الذي تأسس بإرادة لا بإكراه من أحد ولا على حساب أحد، بل تأسّس وفقًا لقاعدة التداول السلمي على السُّلطة. إنّ الأنا والآخر يشتركان في النوع الإنساني الذي يكتسب الأفكار التي تحدّد السّلوك متأثرة بالدوافع؛ وهذه الدوافع متنوّعة المصادر ومتعددة الاتجاهات، تفرض على السّلوك وسائل وأدوات في التعبير عن القناعات الفكرية؛ ممّا يستوجب وقفة عند الدوافع التي تحدد السّلوك في اختيار أدوات التعبير. أ د. عقيل حسين عقيل 2022م

موقع الناشر

عرض