ملخص
ظلّ الشعر العربي ــ في مجمله ــ قبل عصر النهضة , ولا سيّما في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر وما قبله , يدور في حلقة ضيّقة من الموضوعات الذاتية الفردية التي لا تمسّ روح الشعر ولا حياة الناس ولا شؤونهم العامّة , حتّى غرق في نظم لا صلة له بالشعر غير الوزن والقافية كشعر المناسبات , ونظم الألغاز , والتأريخ الشعري , والمساجلات الارتجالية , فهو شعر ضَعُفَ فيه الخيال , وصدق العاطفة , والجمال الفني , وعمق التجربة , ولكنَّ بعض الشعراء استطاعوا أنْ ينهضوا بمواهبهم ويحقّقوا لأنفسهم شهرةً وفنّاً , ولم ينبع هذا الشعر من معاناة الشاعر لتجربة ذات جوّ مميّز , ولم يُمثّل الناس أو يُعبّر عن همومهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية إلاّ في القليل النادر ؛ ولهذا أُصيب الشعر بالجمود الفني . حتّى إذا حلّ العصر الحديث وقامت النهضة الحديثة , بدا لعوامل النهضة تأثير مهمّ في الشعر ؛ إذْ نمتْ في كثير من الأحيان رغبة مُلحّة في التغيير والتجديد لدى الشعراء , وظهرت مدارس حديثة تولّت عملية النهوض بهذا الأدب , مثل : مدرسة الإحياء أو ( المحافظين) , ومدرسة المهجر, ومدرسة أبولو , ومدرسة الديوان . وكان لكلّ مدرسة أسلوبها في التجديد والتحديث والنهوض بهذا الشعر أو الأدب . وكانت مدرسة الإحياء من المدارس التي اشتُهرت آنذاك وهي موضوع بحثنا . ومعنى المدرسة أنّ هناك مجموعة من الشعراء في وطن واحد , أو أكثر , يُجمعون على تبنّي أعراف أدبية ذات سمات مُحدّدة من خلال نتاجهم الشعري أو النثري , ويتبعهم آخرون إعجاباً بأسلوبهم في النظم , ثُمَّ يشيع ذلك , فالمدرسة ــ إذاً ــ تأسيس وأتباع وشيوع . أمّا الإحياء فهو إعادة الشعر العربي إلى سابق عهده , وإحياؤه من رقدته والعودة به إلى تقاليده , أو استيحاء الشعر العربي القديم في أصالته , ورصانة لغته , وقوّة أسلوبه مع احتفاظ الشاعر بشخصيته وقدرته على التفاعل مع منجزات عصره , بعد أنْ فقد الشعر كلّ الخصائص على يد شعراء القرون السابقة ــ كما أشرنا ــ , ولقد حاول شعراء مدرسة الإحياء التعبير عن أنفسهم بصدق ووضوح , ووازنوا موازنة فنية رائعة بين عناصر الشعر العربي القديم (الموروث) , وقضايا الإنسان في عصره, وقد أحدثوا تواصلاً حيّاً مثمراً عن الحاضر والماضي , ولعلّ أهمّ مَنْ مثّل هذه المدرسة , وكان الرائد فيها الشاعر محمود سامي البارودي , وتبعه في مصر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم , أمّا في العراق فقد مثّلها الشاعر محمد سعيد الحبوبي وجميل صدقي الزهاوي ومعروف عبد الغني الرصافي ومحمد مهدي الجواهري , وسار بقية الشعراء في الوطن العربي على خطى مدرسة الإحياء . ولمّا اتّخذت مدرسة الإحياء من شعرنا القديم مثالاً تسير على خطاه في الأغراض والأساليب واللغة وكثير من الصور الشعرية , وعلى الرغم من أنّهم قد التزموا بالشعر العمودي ( ذو الوزن والقافية ) , فإنّهم عبّروا عن الحياة الجديدة في مطلع القرن العشرين , وما رافقها من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية في التغيير , طامحة إلى التجديد , مع أنّ مفهوم التجديد لم يكن واضحاً لديهم , لقد طوّروا في الصورة الشعرية والأساليب واللغة بما ينسجم وتطوّر حياة الناس والذائقة الأدبية , ولكنّهم ظلوا محدودين . حاول هؤلاء الشعراء محاكاة القدماء فكان البارودي شاعر البداوة حين صوّر الحياة البدوية في شعره من حيث ذكر الرسوم والأطلال والرعيان والقبائل والإفراط بها حتى قال عنه عبّاس محمود العقّاد : إنّ البارودي لا يقلّ شأناً من النابغة الذبياني أو عنترة بن شدّاد العبسي لتعاطيه الأوزان نفسها وكذلك المضامين ورُبّما القافية . وكذلك فعل الشاعر معروف عبد الغني الرصافي حين وصف الديار الدوارس والظباء وعيونها , وحاول شعراء هذه المدرسة معارضة الشعراء القدماء , فمثلاً الشاعر جميل صدقي الزهاوي أخذ بيتاً من الشاعر القديم أمية بن أبي الصلت وعمل قصيدة على غرارها في شهداء ثورة العشرين في العراق , حاكاها وزناً وقافيةً , وعندما أراد أنْ يكتب في الرثاء فلم يجد غير حماسة أبي تمّام ليأخذ قصيدة السلكة وهي ترثي ولدها الصعلوك فاستعمل القصيدة نفسها وزناً وقافيةً ومضموناً . ومن سمات هذه المدرسة أنّ شعراءها تفاعلوا مع الأحداث التي عصفت بالوطن العربي من جراء الاحتلال الاستعماري واضطروا إلى مشاركة الأمة أحزانها فكتب أحمد شوقي عن دمشق حين هاجمها الاستعمار الفرنسي , وكذلك مع بيروت , وحاول استثارة الحمية العربية بقصائده وتحريضهم على طرد الاستعمار من البلاد العربية . ولم يكونوا يهتمون بمشاكل قطر معيّن بعينه بل اهتموا بأوجاع الوطن العربي كلّه . وهكذا كان شعراء هذه المدرسة فاعلين جداً في المجتمعات العربية .