ملخص
تعتبر العلاقة المتبادلة بين الإنسان وبيئته العمرانية علاقة وثيقة الصلة منذ القدم , فالإنسان يقدر البيئة العمرانية الواضحة ويرغب بالعيش فيها كبيئة متناغمة تتيح لسكانها الاستمتاع بمحيطهم متجسدا ذلك بعمران مدنهم التي تعتبر خلاصة تاريخ الحياة الحضرية لمجتمعاتهم , ومعظم سكان العالم يحملون صور ذهنية لمدنهم وكل صورة ذهنية مختلفة عن الأخرى نظرا لاختلاف الخلفية الثقافية وخبرة كل فرد في المجتمعات المتعددة ,فالمدينة عبارة عن حلقات زمنية متداخلة ومتراكبة يصعب تفكيكها فهي تبث داخلنا الحس الزمني حتى إننا لا نجد سجلا بصريا بالغ الدقة يضاهيها فهي سجل متحرك ومتجدد يقبل بالتجديد دائما وكل حلقة جديدة تزيد من التداخل الزمني في المدينة وتثري فيها التفاصيل الدقيقة إلى الدرجة التي تمثل فيها المدينة سجلا اجتماعيا يبين قيم المجتمع وحضارته . ومع تطور الدراسات التي تناقش صورة المدن الجيدة والذي بدأ مع تطور شكلها وتضخم حجمها وتعدد مشاكلها إلى الحد الذي جعل مخططي المدن يحاولون جاهدين تحسين صورة المدن والبحث عن سبل لوضوح صورتها في أذهان قاطنيها وذلك من خلال خلق بيئة عمرانية مريحة ومناسبة للأنشطة الإنسانية ليتفاعل معها الإنسان بكل راحة ويسر , واجريت سابقا العديد من الدراسات لتحسين الصورة الذهنية للمدن ونلاحظ ذلك منذ القرن الثامن عشر حيث ظهر الاهتمام بتحسين م ) 0111 صورة البيئة العمرانية متمثلا في إعادة تخطيط وتطوير مدينة لندن بعد حريق عام ( للمعماري ( Wren) وكذلك إعادة تخطيط مدينة باريس للمعماري هاوسمان (Hausman ) وتلك كانت البدايات الأولى للاهتمام بالمدن من خلال الجوانب المادية المتعلقة بتحسين صورة المدينة , وكذلك نلاحظ الاهتمام بالصورة الجيدة للمدن كرد فعل للحالة العمرانية المتدهورة لمدن ما بعد الثورة الصناعية في أوربا وظهر هذا الاهتمام في تخطيط شوارع مدينة لندن من حيث تخطيط شبكة الطرق المرتكزة على إعطاء صورة ذهنية جيدة لمستعملي المدينة أثناء تنقلهم بهذه الشوارع من خلال تحقيق المتعة البصرية داخلها وخلق نوع من الإحساس بالارتياح والاستمتاع بعمران المدينة ومثال على ذلك تصميم شارع ( ريجنسى ) بمدينة لندن والذي اختار له المعماري ( Wren) مسقط أفقي منحني لتحقيق التشويق البصري بالشارع ,وظهرت بعد ذلك العديد من الدراسات الحديثة التي تهتم بدراسة صورة المدن لما لها من أهمية في التنقل بكل سهولة ومنح الإحساس بالأمان والقدرة على الاستمتاع بالعمران لمستخدميها . ومن هنا جاءت فكرة البحث لدراسة الصورة الذهنية لمدينة طرابلس . وتعتبر دراسة الصورة الذهنية لمدينة طرابلس تجربة مهمة جديرة بالاهتمام خاصة وان هذه الصورة بدأت في التغير لجزء من ملامحها نتيجة لإعادة التطوير الحاصل وخاصة في شوارع مركز المدينة , وكان التفكير في إجراء هذا البحث الذي يتناول الصورة الذهنية لمدينة طرابلس للتعرف على صورتها والعناصر المكونة لها والانطباعات الذهنية للطرابلسيين عن مدينتهم . فمدينة طرابلس مرت بحضارات متعددة خلفت عمائر تباينت في صيغ تشكيلها وتقنياتها, واختلفت مناطقها وفقا لتخطيطها المتنوع فنجد المعمار المحلي بالمدينة القديمة والمعمار الايطالي بمركز المدينة والمعمار الحديث اغلبه بالمناطق الحديثة ومن هذا المزيج تشكلت المدينة بذاكرة متمثلة في طبقات زمنية متعاقبة ومتداخلة تترابط بشكل متجانس وخاصة بالمدينة القديمة ومركز المدينة لتشكل هوية المدينة وتبين تفردها ومعمارها المميز والذي افتقرت له المناطق الحديثة , واختيرت مدينة طرابلس نظرا لتفردها فهي مدينة ثرية بالعناصر المكونة للصورة الذهنية وهي مدينة مفعمة بالحيوية والنشاط , وكذلك مقياسها الكبير ووظيفتها الخدمية على المستوى الإقليمي . وتناول البحث دراسة صورة مدينة طرابلس من خلال دراسة مفهوم الصورة الذهنية للمدن ومكونات هذه الصورة وكذلك خصائص ظهور العناصر المكونة للصورة الذهنية ومكوناتها المادية والمعنوية , كما تطرق البحث للعوامل المؤثرة على هذه الصورة والتطور التاريخي لمفهوم صورة المدينة والقواعد والمفاهيم المنظمة للصورة الذهنية للمدن . ويشمل البحث دراسة نظرية للأدبيات السابقة ودراسة عملية تتكون من جزأين الأول تجريه الباحثة لدراسة وضوح بعض نماذج للعناصر المكونة للصورة الذهنية , والجزء الثاني يجرى على أفراد عينة البحث من خلال استبيان ثم الإجابة عليه من قبل أفراد العينة , والهدف من وراء ذلك دراسة شاملة للصورة الذهنية لمدينة طرابلس وعناصرها الظاهرة في أذهان قاطنيها على هذا المقياس الكبير للمدينة . وتم استخلاص مجموعة من التوصيات والاقتراحات التي من شأنها توضيح الصورة الذهنية لمدينة طرابلس وفهم نقاط القوة والضعف فيها والتأكيد على صورة ذهنية واضحة ترسخ هوية المدينة في الانطباعات الذهنية لساكنيها.