ملخص
بفضل العديد من العوامل الجغرافية والطبيعية والاقتصادية والسياسية، شكلت مدينة طرابلس خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مركزًا تجاريًا مهمًا في منطقة المغرب العربي. يمكن ملاحظة هذه المكانة بسهولة من خلال التدفّق المستمر للأفراد والجماعات، ينتمي بعضهم إلى أوروبا في حين ينتمي معظمهم إلى دار الإسلام. وبالنظر إلى حقيقة أن التجار الأوروبيين يشكلون في نظر السكان المحليين "الآخر"، فمن المنطقي النظر إليهم على أنهم أجانب. لكن ماذا عن تجار دار الإسلام؟ هل يمكن اعتبارهم أيضًا "الآخر"؟ هذا السؤال إشكالي تماما بسبب دلالاته الأيديولوجية. فمن المعتاد بين الباحثين المحليين اعتبار دار الإسلام موطنًا لجميع المسلمين. لذلك، فإن اعتبار التونسيين أجانب في منطقة تابعة لدار الإسلام، ايالة طرابلس، هو أمر غير مقبول ليس فقط في نظر دعاة الأمة الإسلامية، ولكن أيضًا في نظر أنصار القومية العربية. ففي حقبة ما قبل الاستعمار، كان ينظر إلى دار الإسلام من قبل معظم المسلمين دائمًا على أنها كيان واحد ومتجانس، وبالتالي فإن أي محاولة لمعالجة مسألة أصول الدولة الوطنية في هذه الحقبة قد تبدو غير مقبولة من قبل عدد غير قليل من المؤرخين وعلماء السياسة المحليين وقد يُواجه من يجرؤ على طرح هذه المسألة والبحث بعمق في أصولها اتهامات أقلها انتماءه إلى التفكير الاستعماري. لن تتطرق هذه الورقة إلى هذا الموضوع، بل هي تهدف إلى لفت الانتباه إلى عدد من العناصر التي ساهمت في بروز التجار التونسيين كـ"أجانب". في هذا السياق، سيتم تقديم أمثلة لعدد من الأفراد والجماعات التونسية الذين، على الرغم من إقامتهم الطويلة في طرابلس، احتفظوا بهويتهم التونسية وظهروا كرعايا موالين لباي تونس. وتجدر الإشارة أخيرًا إلى أن هذه الورقة تعتمد بشكل أساسي على مصادر محلية أولية، لا سيما سجلات محكمة طرابلس الشرعية، بالإضافة إلى يوميات حسن الفقيه حسن، واحد من تجار وأعيان مدينة طرابلس في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فضلا عن بعض وثائق القنصلية الفرنسية في طرابلس خلال الفترة المذكورة.